في حين أنّ نسبة المتحدّثين باللغة العربية تبلغ 5% حول العالم، فإنّ المحتوى الرّقمي باللغة العربية على شبكات الإنترنت لا يتجاوز 1%. ويرجع هذا التفاوت الكبير لفجواتٍ سابقة عدّة في العالم العربي، منها فجوة التعليم والفقر والعدالة الاجتماعية والتنمية البشرية وغيرها، يُضاف إليها اليوم فجوات طارئة مثل الفجوة الرّقمية وفجوة الذّكاء الاصطناعي، وفجوة تأخّر الوعي بالحاجة إلى إغناء المحتوى العربي على الإنترنت، وإعداد المعاجم والموسوعات والاستثمار في التأليف الرّقمي باللغة العربية، وتوفير تطبيقات التعلّم والترجمة الآلييْن، والتعلّم عن بُعد والأقسام الافتراضية، وقبل هذا وذاك غياب الاهتمام المُبكر بإعداد خبراء ومتخصّصي الذّكاء الاصطناعي، ذوي الاهتمام بمشاريع إغناء اللغة العربية على الإنترنت، مثل خبراء معالجة النّصوص والترجمة الآليّة وتحليل البيانات وتعلّم الآلة العميق.
في هذا السّياق، يُشير مصطلح الذّكاء الاصطناعي عمومًا، إلى قدرة الحاسوب على معالجة البيانات والوصول إلى نتائجَ تُشبه في طبيعتها التفكير البشري، من حيث التعلّم وإنتاج الكلام وفهمه لغويًّا، ولبلوغ ذلك يتطلّب الأمر توليد المعنى على مستوى الدماغ (بشري أو آلي)، ثم ترميزه باستخدام نظامٍ لغويّ محدّد، ثم تأتي بعد ذلك مرحلة الفهم والتعرّف، وتتمّ عن طريق الاستقبال والترميز باستخدام النّظام اللغوي ذاتِه.
دمج الذّكاء الاصطناعي في معالجة اللغة العربية يثمر فرصًا تضمن تطوّرها في العالم الواقعي والفضاء الرّقمي
ولا تنحرف اللغة العربية بشكلٍ عامٍّ عن هذه المُعادلة، غيْر أنّ لغاتٍ عالميةً مثل الإنكليزية والصينية تمتلك اليوم برامج ذكاء اصطناعي تُحاكي قدرة الإنسان على فهم وإنتاج الكلام، ممّا يجعلها أكثر فاعليةً في سباق التطوّر اللغوي الرّقمي مقارنةً بالعربية، التي تواجهها تحدّيات جسيمة خصوصًا ما ارتبط منها بمعالجة النصوص، بالنّظر لتعدّد القواعد والرّموز وجذور الكلمات واختلاف دلالاتها، وشيوع استعمال المُرادفات والاستعارة والكناية، وكذلك اعتماد النّص العربي على التحليل والتفسير السياقي للنصوص بدل البنية التركيبية، أضِف إليه تعدّد اللهجات واختلافها على مستوى المعاني والتعبير اللغوي تبعًا للتوزيع الجغرافي.
في مقابل ذلك، يمكن أن تُثمرَ جهود الخبراء في حال تمّ دمج الذّكاء الاصطناعي في معالجة اللغة العربية، فرصًا غير مسبوقةٍ لا تحفظ اللغة العربية وحسب، بل تعزّز أيضًا نموّها وأهمّيتها عالميًا، وتضمن تطوّرها في العالم الواقعي والفضاء الرّقمي كذلك، من خلال الاستفادة من التقنيّات المتقدّمة مثل معالجة اللغة الطبيعية (NLP)، والترجمة الآلية العصبية (NMT)، وأنظمة التعلّم التكيّفية وغيرها.
تطبيق الذّكاء الاصطناعي على اللغة العربية اليوم ليس مجرّد حاجة تكنولوجية بل هو تحدٍّ ثقافي وحضاري مصيري
لبلوغ ذلك، تحتاج الدول العربية إلى مشاريع إقليميةٍ رصينةٍ ومراكزَ بحثيةٍ فاعلةٍ، تتجه نحو تبنّي رؤيةٍ شموليةٍ تجمع بين الابتكار والتطوّر التكنولوجي اللغوي من جهة، ورمزية اللغة العربية وحساسيّتها الثقافية والحضارية من جهة أخرى، بما يسمح بفتح صِلات التعاون والتنسيق بين اللغويّين والمهندسين والمُبرمجين، وصُنّاع السياسات والمستثمرين ومراكز البحث والجامعات العربية، وينتهي إلى تطوير أنظمةٍ وبرامجَ ذكاءٍ اصطناعيّ قادرةٍ على عكس العمق اللّغوي والثقافي للغة العربية بدقةٍ متناهية، لا تعزّز مكانتها على مستوى عالمي وحسب، بل تسدّ الفجْوات الحالية وتستبق المستقبليّة، وتمدّ أواصر الترابط والتعاضد بين المجتمعات العربية على مستوى التعليم والبحث العلمي وإثراء المحتوى الثقافي العربي على المنصّات الرّقمية.
ختامًا، إنّ تطبيق الذّكاء الاصطناعي على اللغة العربية اليوم، في عالمٍ تسوده حروب بأسلحة قتالية، وبشرية، وروبوتية، وجيوش إلكترونية، وفيروسات رقمية، كما تتجه مراكزه وأطرافه نحو الآلة وقدراتها اللّامتناهية، ليس مجرّد تقليد أو حاجة تكنولوجية وحسب، بل هو تحدٍّ ثقافي وحضاري مصيري، وفي هذه البوْتقة حيث يتقاطع الإبداع والابتكار مع التقليد والتراث، يمكن حينها ضمان حماية التراث اللغوي للعربية لأجيال قادمة، مع تمكينها من الازدهار والتطوّر في عالم الانسانيّات الرّقمية، وذكاء الآلة الاصطناعية.
(خاص "عروبة 22")