يمكن التأريخ لعلاقة المسيحية والصهيونية بالسّياق التاريخي للدعوة المسيحية نفسِها، فمسألة "العودة" هي نقطة مشتركة بين المسيحية واليهودية؛ وإن اختلفا حول طبيعتها، حيث العودة في المسيحية ترتبط بمجيء المسيح وعند اليهود بتحقّق الوعد الإلهي الذي أضيف اليه المعطى المسيحي الأول، وهنا نثير فكرة الخلاص أو الأمل الإسكاتولوجي (الأخروي)، إذ حسب السرديّة التوراتية، فإنّ مركز الدعوة اليهودية يدور حول "هبة الأرض من الإله إلى نسْل ابراهيم مُلكًا أبديًا"، فينطلق اليهود من أرضيةٍ ثابتةٍ تدمج المُقدّس في قالب المُدنّس، أي هِبة الأرض (إلهية وأبدية) والأرض مجال دنيوي فانٍ. هذه التوليفة هي ما تؤسّس الأفق الانتظاري الدنيوي والأخروي لليهود.
الأصل المشترك المُشكّل للصهيونية المسيحية منح الفعل السياسي الغربي حريةً في ممارسة العنف تجاه الآخر
من منظورٍ تاريخيّ، يؤمن المسيحي بالعهد القديم، لأنه جزءٌ من الكتاب المقدّس في حين أنّ اليهود لا يؤمنون بالمسيح، لهذا تولّد في العمق الغربي تياران؛ تيار تأسّس على منحى القطيعة مع اليهود، والتيار الثاني يُبنى على أساس جدوى الإرشاد الدنيوي لليهود قبل إحداث القطيعة عنهم وتصنيفهم في جانب الآخر (المرتدّ)، وقد تكون فكرة مجيء الخلاص التي تؤسَّس عليها الدعوة المسيحية فرصةً ثانيةً لتحقيق توبة اليهود؛ ولهذا سعى هذا التيار إلى تهيئة الأرضية التاريخية والدينية لإتمام فكرة الخلاص عبر إعادة بناء اللحظة التاريخية المؤسِّسة للفكر المسيحي اليهودي، بمعنى ما، تحقيق التوليفة الدينية الدنيوية القائمة على الوعد/الأرض لليهود.
يمكن القول إنّ إنكلترا وامتدادها الأميركي - التوجّه الكاثوليكي - مثّلا التيار الثاني للفكر المسيحي المؤازر للفكر اليهودي في إطار إمكان توبة اليهود بالتزامن مع عودة المسيح، ومن هنا ظهور الصهيونية المسيحية، على خلاف التوجّه الأوروبي، بشكلٍ مجمل، لأنّه توجّه يُعادي نسبيًا أو يتّخذ موقفًا معاتبًا لليهود وموقف قطيعةٍ عقابًا لهم لكفرهم بالمسيح، وقد تدخل في هذا الباب المذابح وكلّ أشكال العنف التي مورست تجاه اليهود في أوروبا خلال القرون الوسطى، فالذّريعة كانت دينيةً بامتياز. وقد سبّب هذا الاضطهاد هجرة اليهود نحو أميركا بشكلٍ كبيرٍ خصوصًا إبّان الحرب العالمية الثانية.
إنّ هذا الأصل المشترك المُشكّل للصهيونية المسيحية، أي ثقافة الجذر الواحد أو ثقافة العهديْن القديم والجديد، يقابله في الجانب الآخر وجود عربي مُخالف تمامًا ويُمثل حاجزًا أمام تحقّق النبوءة المحرّرة لليهود والمسيحيين، مما يرسم رؤيةً فوقيةً يزكّيها التقدم التقني والتكنولوجي، الأمر الذي منح الفعل السياسي الغربي حريةً في ممارسة كل أشكال الكراهية والعنف تجاه الآخر، فيُصبح هذا الأخير أشبه بقربانٍ مسموحٍ بهدر دمه لتحقيق المطلبيْن وفق سرديّة ترتفع إلى عتبة القدسية الدّينية.
بناءً على ما سبق يمكن القول:
- إنّ غياب مأسَسة أو هيكلّة حقيقية من طرف الدول العربية لإيجاد أرضيةٍ أكاديميةٍ للدراسة والبحث بالأخصّ فيما يخصّ الفكر اليهودي، عمل على تعظيم وتقوية هذا الكيان لإبرام تحالفاتٍ عضويةٍ مع الجانب الأقوى، فصرنا أمام نماذج لكيان ترسم تجارب تاريخية مختلفة يصعب حصرها في نموذجٍ واحدٍ خلال فترةٍ زمنيةٍ لم نَعِ صيْرورتها الفعلية، ممّا يُشرْعِن الانحباس التاريخي لمسارنا النّهضوي بغطاء تجاهل الآخر الذي ينخر العمق العربي.
إثارة التجذير الديني للدعم الأميركي اللّامحدود لإسرائيل لا يعني تغذية أو تزكية التطرّف الديني المعاكِس
- إنّ الدافع السياسي والاقتصادي وتحالفات القوى يُمثّلان دورًا أساسيًا في هذا الصّراع، لكن مع ذلك يظلّ الصّراع الدّيني مُهمًّا لفهم هذا الآخر وآليات تحرّكاته، كما أنّ إثارة التجذير الديني للدعم الأميركي اللّامحدود لإسرائيل لا يعني تغذية أو تزكية التطرّف الديني المعاكِس، بقدر ما يضيء الأرضية لفهم منطِق التحالفات.
- إنّ الجانب الجيوسياسي يُخيّم بظلالِه على مستوييْن اثنيْن على الأقل: المستوى العربي والمستوى الإسرائيلي، حيث لعنة الجغرافيا المقرونة بالثيولوجيا تُصعّب مسألة التعاطي السياسي مع هذا الصراع، فإسرائيل تسوّق نفسَها على أنها محاطة بالأعداء لهذا يطغى بشكلٍ كبيرٍ الهاجس الأمني والسبق العسكري على توجّهها السياسي، فنصير أمام ما يُسمى بثيولوجيا جيوبوليتيك الرجل اليهودي، في حين يُحصر العرب في صورة "رجل الشرق المُتخلّف"، فيتم تعميق عجزه الذاتي عبر عملية تغريب هوياتي وخندقته بمنطق ديني جغرافي سياسي.
(خاص "عروبة 22")