الحرّيات الصحافية والإعلامية ضمانةٌ عامةٌ تحصّن المجتمع وتعطيه أملًا مصدقًا في التغيير السلمي الآمن... واستقلال القضاء مسألة عدالةٍ ومستقبلٍ حتّى يمكن التحوّل إلى دولةٍ مدنيةٍ ديموقراطيةٍ حديثة - على ما ينصّ الدستور المصري.
تحتاج مصر إلى أن تقرأ تاريخها المعاصر بروح نقدية
بإرثِ التاريخ القريب... تأكّدت بالمواقف المُعلنة والمشاعر العامّة قوة إلهام حرّية الصحافة واستقلال القضاء.
بحقائق اللحظة الرّاهنة، إنّنا أمام إلهامٍ جديدٍ في القضية الأولى تؤْذن بإلهامٍ مماثلٍ بالقضية الثانية.
هذا منطق الأمور والتحدّيات الضاغطة على مصر.
في القضيتين تناقضت البدايات مع النّهايات.
تحتاج مصر إلى أن تقرأَ تاريخَها المُعاصِر بروحٍ نقديةٍ حتى لا تتقوّض الرّهانات مرةً بعد أخرى على نقلةٍ نوعيةٍ في بنية نظامها السياسي لا عودة بعدها إلى الخلف.
على الرَّغم من أيّ انكساراتٍ مؤلمةٍ فإنّ الذاكرة العامّة احتفظت برهاناتها القديمة وبدت حاضرةً في خلفيّة المشهد الانتخابي الصحافي.
تابعت النُّخب المِصرية والقوى السياسية باختلاف توجّهاتها الوطنية الانتخابات ونتائجها أملًا في استعادة شيءٍ من الرّهان على المستقبل من دون انكسارٍ جديد.
لم يكن النّقيب المُنتخب "خالد البلشي" وجهًا معروفًا في الحياة العامّة قبل عاميْن. خاض الانتخابات حتّى لا يُحسب على تيار الاستقلال النّقابي عجزه عن تقديم مرشحٍ لمنصب النّقيب. حظيَ بتشجيع ودعم النّقيب الأسبق "يحيى قلاش"، اللذين ضمّهما قفص اتهامٍ واحدٍ مع السكرتير العام "جمال عبد الرحيم" على خلفيّة اقتحام نقابة الصحافيين عام (2016).
اكتسب "قلاش" بمواقفه الصارمة في الدفاع عن حرّية الصحافة واحتضانه لجيلٍ نقابيّ جديدٍ صفة "الأب الروحي".
في المرّة الأولى، كسب "البلشي"، على الرَّغم من كلّ الظروف المعاكسة، بالتصويت العقابي.
هذه المرّة بدت تجربته تحت التقييم في صناديق الاقتراع.
بقوّة تجربته كنقيبٍ مستقلٍ نجح في إدارة التعقيدات السياسية من دون صدامٍ، واكتسح كلّ الضغوط التي مورست ضدّه.
لم تقتنع أعداد كبيرة من الصحافيين بدعايات منافسيه أنّ النقابة مختطفة لتيارٍ يساريّ، أو من "شلّةٍ" بعينها.
بقدر استطاعته، حقّق ما يصبو إليه الصحافيون من مكاسب خدمية من دون تهاونٍ في التزام قضية حرّية الصحافة وضرورات الإفراج عن الصحافيّين الموقوفين.
لم يكن وحدَه، فقد ضمّ مجلسه شخصيات ذات مواقف واضحة تُدافع بلا هوادة عن حرّية الصحافة واستقلال العمل النقابي.
في الانتخابات الأخيرة، بدت معركة التجديد النّصفي لمجلس النقابة حاسمةً في تقرير مدى قدرة النقيب المُنتخب على اتّباع السياسات والمواقف نفسها، التي اتّبعها في الدورة الأولى. كان نجاح وكيل النقابة "محمد سعد عبد الحفيظ" في تجاوز المحاولات المُستميتة لإسقاطه انتصارًا حقيقيًّا لتيار الاستقلال النقابي. لم يكن هناك داعٍ لشراسة التدخّل في الانتخابات، التي دعت أطراف عديدة إلى اعتبارها الأسوأ في تاريخ النقابة العريقة.
إذا ما استمرّ هذا النهج في الانتخابات النيابية المُقبلة فإنّ التداعيات سوف تكون كارثية على نظام الحكم والبلد
تجربة "البلشي" حسّنت من صورة نظام الحكم الحالي، لم تتصادَم معه، التزمت بأدوارها النّقابية من دون تسييسٍ زائدٍ، ولاقت في الوقت نفسِه قبولًا واسعًا من قوى المعارضة باختلاف توجّهاتها.
حدث نوعٌ من التدخّل أفلتت تصرّفاته من كلّ قيدٍ، حتّى بدت خسارة فريق انتخابي، كما لو كانت خسارة للدولة كلّها.
هذا يستدعي المراجعة الجادّة حتى لا تتكرّر السلبيّات المُفرطة بما يسيء إلى أي أمل في التغيير السلمي. إذا ما استمرّ هذا النهج في الانتخابات النيابية المُقبلة فإنّ التداعيات سوف تكون كارثيةً على نظام الحكم، والبلد كله!
أكثر الأسئلة جوهريةً الآن: ما نصوص القانون المُزمع إصداره للانتخابات النيابية... ومدى اتّساقها مع مُخرجات الحوار الوطني، التي تبنّت المُزاوجة بين الانتخابات الفردية والقوائم النسبية؟
الأهمّ ألّا يكون هناك نوع من الهندسة الانتخابية المُسبقة تُقرّر من يدخل البرلمان والنّسب التي يحوزها كل حزب!
أيّ انتخاباتٍ مُهندَسةٍ في ظروف مصر الحالية تسحب على المفتوح من خزّان الشرعية وتضع البلد كله في لحظة استحقاقاتٍ صعبةٍ على الأصعدة كافّة، وأمام انكشافٍ كاملٍ يصعب تدارك تداعياته ومخاطره على المستقبل المنظور.
الانفتاح السياسي ضرورة استقرار... والانتخابات الحرّة ضمانة أمن.
حرّية الصحافة واستقلال القضاء مدخلان إجباريّان إلى المستقبل.
أسوأ ما قد يحدث ألّا نتعلم من التاريخ.
لسنواتٍ طويلةٍ قبل عواصف "يناير" تجاورت فكرتان مُتناقضتان على نحوٍ مربكٍ في أروقة السلطة العليا.
الأولى، تعتقد أنّ نظام الحكم المستفيد الأول من الحرّيات الصحافية والإعلامية، وأنّ الهامش الواسع من الحرّية العُرفية مكّنه من كسْبِ الرّهان على البقاء لسنواتٍ إضافية.
والثانية، ترجع أزمات النّظام المُستحكمة إلى الإعلام، لا السياسة.
كانت تلك فكرةً مدمرةً لشرعية النّظام بإعفاء السياسة من مسؤولياتها وتحميلها للصحافة والإعلام.
مصادرة حرية الصحافة خاسرة حتمًا في نهاية المطاف
ذات مرة، قال الدكتور "محمود محيي الدين" وزير الاستثمار الأسبق لصحافيين كبار في لقاء غلبته الصداقات الشخصية: "مشكلتنا في الإعلام".
عندما علَت الدهشة الوجوه أخذ يشرح فكرته بقدرٍ من التوسّع... فالإعلام الرّسمي مُقصّر، والإعلام المُعارض والخاص أكثر تأثيرًا، وأنّه إذا توافرت الكفاءات المهنية في الصحف القوميّة فإنّ الصورة يمكن أن تتغيّر، والرأي العام يمكن أن يقتنع.
كان من رأيي: "مشكلتكم في السياسة لا في الإعلام... هناك قاعدة إعلامية تقول: أنت لا تقنع إلا بما هو مُقنع"... لكنّه لم يكن مقتنعًا بأنّ السياسة المصرية غير مقنعة!
أهمّ رسائل انتخابات نقابة الصحافيين، أنّ التغيير ممكنٌ ومصادرة حرية الصحافة خاسرة حتمًا في نهاية المطاف.
(خاص "عروبة 22")