لا تتوقف اسرائيل عن نشر الفوضى والخراب في المنطقة متمتعة بغطاء أميركي لتحقيق مخططاتها التوسعية، في وقت تفشل الدول على اختلافها بأن تعالج "المأزق الأخلاقي" الذي وضع رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو الجميع أمامه من خلال بطشه وانتهاكاته المتواصلة. ففي أقل من 24 ساعة قصفت اسرائيل اليمن ولبنان واستكملت حرب الابادة في غزة والتهجير في الضفة الغربية المحتلة، دون أن ننسى الانظار الشاخصة على سوريا والمخاوف من التفتيت والتقسيم والتهديدات اليومية العلنية لإيران. فإسرائيل تضع الخيارات العسكرية على الطاولة وترفض الحلول الدبلوماسية وتعرقلها بهدف توسيع وجودها ونفوذها الميداني وهو ما يمكن أن نلحظه من خلال بقاء احتلالها لأراضٍ في لبنان وتوسيع المنطقة العازلة في سوريا وقضم المزيد من قطاع غزة بل التهديد باحتلاله بشكل كامل.
هذه التطورات تأتي بينما يتحضر الرئيس الاميركي دونالد ترامب لزيارة السعودية والامارات وقطر في اولى جولاته الخارجية منذ انتخابه رئيسًا لولاية ثانية انطلاقًا من مساعيه لتعزيز اقتصاد بلده، حيث ان المعطيات الاعلامية أكدت ان ملف الاستثمارات والتعاون المشترك مع هذه الدول سيكون في صلب لقاءاته وسيوليه الحيّز الاهم على حساب بقية الملفات على سخونتها. فالجولة "الاقتصادية" التي يزمع القيام بها ستطغى في قادم الايام على ما عداها، في حين ينتظر ان يطرح قادة هذه الدول 3 ملفات رئيسية وهي القضية الفلسطينية وضرورة انهاء الحرب وادخال المساعدات، الازمة السورية التي توليها السعودية كما قطر أهمية قصوى وصولًا الى استطلاع تطورات الملف الايراني والمفاوضات الجارية، خاصة ان البعض يتخوف من ان تكون الصفقة "المحتملة"، إن تمت، على حساب الدول العربية وأمنها.
ازاء هذا المشهد المُعقد، شكل الصاروخ الذي أُطلق على مطار بن غوريون والبلبلة التي احدثها مع توقف حركة الملاحة الجوية كما اعلان العديد من الشركات الأجنبية تعليق رحلاتها الى تل أبيب الحدث الأكثر اهمية لانه يلقي الضوء على القدرات التي لا تزال تملكها جماعة "الحوثي" رغم الضربات الاميركية المستمرة والتي ارتفعت وتيرتها في الآونة الاخيرة. كما يزيد من حجم الضغوط الداخلية على نتنياهو بظل استمرار التظاهرات الداعية لابرام صفقة في غزة فورًا واطلاق سراح الرهائن المحتجزين لدى حركة "حماس" ووقف التبعات الاقتصادية للحرب. ناهيك عن عدم "تحمس" واشنطن لضرب ايران وتفضيلها "الحوار" والتوصل الى اتفاق تسوية وهو ما عكسته بوضوح تصريحات الرئيس دونالد ترامب الاخيرة والتي ابدى فيها استعداده السماح لطهران بالسعي للطاقة النووية المدنية.
ومن هنا يمكن القول ان المنطقة برمتها مع أحداثها التصعيدية تقف عند منعطف شديد الخطورة يضعها أمام خيارين، وهو إما التصعيد المستمر دون أفق وإما التوصل الى تسوية شبه شاملة تعيد رسم موازين القوى وترسي ترتيبات جديدة، وهو ما ستوضحه المستجدات المستقبلية على اكثر من جبهة وجهة. ونبدأ من الحدث اليمني حيث شنّت إسرائيل بالتنسيق مع الولايات المتحدة سلسلة من الضربات العنيفة على ميناء الحُديدة ومحيطه ردًا على الهجمات الحوثية التي طالتها يوم الأحد. وقال الجيش الاسرائيلي، في معرض تبريره للهجمات، أن هذا الميناء يُستخدم لتهريب أسلحة إيرانية ومعدات عسكرية للحوثيين، مؤكدًا أن جماعة "أنصار الله" "تعمل بتمويل وتوجيه إيراني لزعزعة الاستقرار وتهديد الملاحة الدولية".
ومن اليمن الى غزة، حيث نقل موقع "أكسيوس" عن مسؤولين أميركيين اشارتهم الى أن الحرب على القطاع هي السبب في عدم شمول إسرائيل ضمن جولة الرئيس الأميركي الى منطقة الشرق الأوسط، لكنهم أشاروا، في الوقت عينه، إلى أن ترامب أعطى نتنياهو الضوء الأخضر للقيام بما يراه مناسبًا، موضحين أن قطاع غزة ليس أولوية قصوى بالنسبة له، ومن هنا لا يلعب دورًا نشطًا في الجهود الحالية الرامية إلى التوصل إلى وقف لإطلاق النار. وكان ترامب تبنى، في تصريحاته الاخيرة، السردية الاسرائيلية بأن "حماس" تستولي على كل المساعدات التي تصل الى غزة، مبررًا عدم ادخالها ولكنه وعد بإيصال بعضها الى السكان الذين يتضورون جوعًا. ولهذا يتجه الوضع في غزة الى المزيد من التأزم بعد فشل مراهنة الوسطاء على دور اميركي ما يسهم في هدنة مؤقتة.
في غضون ذلك، قررت اسرائيل توسيع عمليتها العسكرية على القطاع بعدما صادق عليها المجلس الأمني المصغر، والتي تشمل تهجير "غالبية السكان". فوفق المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي إيفي ديفرين فإن القوات الموجودة ستطبق "نموذج رفح"، القاضي بتدمير البنى التحتية لـ"حماس" في أجزاء أخرى من القطاع، وإعلان هذه المناطق جزءًا من المنطقة العازلة الإسرائيلية. ويأتي ذلك مع تصريح رئيس الوزراء الاسرائيلي الذي ادعى انه "سيتم نقل السكان حفاظًا على سلامتهم"، مؤكدًا أن الجنود الإسرائيليين "لن يدخلوا غزة ويشنوا غارات وينسحبوا"، ما يعني تكريس احتلال المزيد من المناطق وطرد السكان منها ومحاصرتهم اكثر في بقعة جغرافية ضيقة.
ومع هذا الهدف المُعلن، يبدو ان الحرب أخذت منحى أخر مختلف عن الاهداف التي رفعها نتنياهو منذ اليوم الاول وهي القضاء على "حماس" واطلاق سراح الرهائن، وهو ما فشل في تحقيقه رغم مرور اكثر من 18 شهرًا على حرب الابادة التي أنهكت كاهل الفلسطينيين. بدوره، أعرب منتدى عائلات الأسرى المحتجزين لدى "حماس" عن استياءه من توسيع العملية العسكرية، مؤكداً في بيان، أن الخطة الإسرائيلية "تفضل الأراضي على الرهائن، وتناقض رغبة 70% من الشعب الإسرائيلي، ولذلك سنندم لأجيال". هذا ولم يصدر عن الوسطاء أي موقف بعد إزاء هذا الاعلان الخطير الذي يُشرّع "احتلال قطاع غزة" ويكرس التهجير واقعًا بما يتناقض مع ما اتفق عليه العرب في قمة القاهرة الاخيرة.
الى ذلك، كشف موقع "واي نت" الإخباري الإسرائيلي، أن مجلس الوزراء الأمني وافق على خطة جديدة لتوزيع المساعدات في غزة، ولكن لم يتضح بعد موعد إدخال الإمدادات إلى القطاع، الذي يعاني من أوضاع كارثية تزيد من المعاناة المتفاقمة وتضع أكثر من مليوني فلسطيني في خطر محدق، ولاسيما لدى الاطفال وسط مناشدات دولية وأممية لانقاذ المنظومة الصحية. وكانت "حماس" رفضت، في وقت سابق، تحويل المساعدات إلى أداة ابتزاز سياسي، أو إخضاعها لشروط الاحتلال، مشيرةً إلى أن "الآلية المطروحة تمثل خرقًا للقانون الدولي وتنصلًا من التزامات الاحتلال بموجب اتفاقية جنيف".
التحذيرات من المجاعة في القطاع وانتشار الاوبئة والامراض مع تصعيد الغارات الاسرائيلية ترافق مع اعلان جيش الاحتلال هدم 106 مبان في مخيمي طولكرم ونور شمس للاجئين الفلسطينيين شمالي الضفة الغربية ضمن مخطط التهجير الذي تنفذه تل أبيب لتوسيع الاستيطان على نطاق واسع. وبرر الجيش الإسرائيلي قرارات الهدم بأنه يجري تغييرات في مخيمات اللاجئين، بما في ذلك من خلال شق طرق ومسارات بهدف توفير حرية حركة وعمل لقوات الاحتلال، ومنع إعادة تموضع ما أسماه الإرهاب في المنطقة، نقلًا عن صحيفة "هآرتس" الاسرائيلية.
أما لبنانيًا، فالانتهاكات الاسرائيلية على حالها رغم كل الجهود الرسمية والمساعي للتوسط لدى الدول المعنية لثني تل أبيب عن مخططاتها. وفي اخر التطورات الميدانية، شنّ الطيران الإسرائيلي غارة، مساء أمس، استهدفت منطقة محلة الشعرة، المتاخمة لبلدة جنتا البقاعية، عند الحدود اللبنانية - السورية. كما كان العدو استهدف بثلاث غارات متتالية منطقة مفتوحة في بلدة عيترون في قضاء بنت جبيل جنوب لبنان. في اطار متصل، كشفت تقارير إسرائيلية معلومات جديدة عن اغتيال الأمين العام السابق لـ"حزب الله" حسن نصر الله والظروف التي تمت فيها العملية التي "اغضبت الاميركيين" لكنها لم تدفعهم الى "محاولة منعها". وتفيد التقارير أيضًا بأن نتنياهو تردد كثيرًا قبل اتخاذ القرار الحاسم، الذي أتى في اللحظة نفسها التي أنهى فيها خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة.
وفي الشأن السوري، أعلن قصر الإليزيه أن الرئيس إيمانويل ماكرون سيستقبل في باريس غداً، الأربعاء، نظيره السوري أحمد الشرع، في أول زيارة له إلى أوروبا منذ الاطاحة بنظام بشار الأسد. وقالت الرئاسة الفرنسية إنّ ماكرون "سيؤكد مجددًا دعم فرنسا لبناء سوريا جديدة، سوريا حرّة ومستقرة وذات سيادة تحترم كل مكونات المجتمع السوري". وضمن السياق، يسود هدوء حذر في محافظة السويداء، جنوبي سوريا، مع بدء تنفيذ الاتفاق الذي تم التوصل إليه بين الحكومة السورية ووجهاء الطائفة الدرزية بعد اشتباكات دامية وقعت الاسبوع الماضي ودخول اسرائيل على خط اثارة النعرات والفتن عبر اعلانها وتدخلها لحماية الدروز في مشهد أعاد المخاوف من تفتيت وتقسيم البلد الذي يعاني من مخاطر جسيمة وظروف معيشية واقتصادية صعبة.
على الصعيد الدولي، نفذت أوكرانيا هجومًا بطائرات مسيّرة استهدف العاصمة موسكو، وذلك لليوم الثاني على التوالي، ما أجبر السلطات على إغلاق المطارات الرئيسية الثلاثة في المدينة، بحسب ما جاء على لسان مسؤولين روس. وأتى هذا التصعيد بعد الاجتماع الذي جمع الرئيسين الأميركي ونظيره الأوكراني فلاديمير زيلينسكي في الفاتيكان، على هامش مراسم توديع البابا فرنسيس، كما بعد توقيع اتفاقية المعادن بين البلدين. وكانت معلومات اعلامية تحدثت عن أن واشنطن تدرس امكانية إرسال دفعة جديدة من أنظمة الدفاع الجوي "باتريوت" إلى كييف بالتزامن مع خطوة مماثلة أعلنت عنها الدول الاوروبية وذلك قبل اجتماعات قمة حلف شمال الأطلسي الشهر المقبل.
الملفات العربية الشائكة كانت محور عناوين واهتمامات الصحف العربية الصادرة اليوم. ونرصد هنا:
لفتت صحيفة "الخليج" الاماراتية الى أن "سوريا الآن تمر بمرحلة خطرة، تتقاذفها القوى الإقليمية، يمنة ويسرة، وتتعرض يوميًا، لاعتداءات إسرائيلية غاشمة، يضاف إلى ذلك ما تمارسه عناصر التكفير من تسعير للنزعات الطائفية ومن حروب فتنة"، داعية الى "العمل الجاد للتصدي للفتنة، التي يشتعل أوارها في عدد من المدن والبلدات السورية، والتي تعتبر خطوة ضرورية لحماية الأمن القومي العربي، وتجنيب الأمة، مخاطر التقسيم والتفتيت ومسؤولية العرب، قادة وشعوباً، لنصرة سوريا، مسؤولية جماعية وليست فرض كفاية"، على حدّ قولها.
وتحت عنوان "فصل جديد من الابادة"، كتبت صحيفة "الوطن" القطرية منتقدة التصريحات الاسرائيلية تجاه الدوحة ودورها في الوساطة، فـ"التشكيك بالجهود اليوم معناه وجود محاولة مدروسة لتقويضها، من أجل إبقاء الحصار الخانق والتجويع الممنهج والحرمان إلى استخدام المساعدات الإنسانية كورقة ضغط وابتزاز سياسي". وقالت "لا يمكن فهم التصريحات التحريضية الصادرة عن مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي، ضد قطر، والتي تفتقر إلى أدنى درجات المسؤولية السياسية والأخلاقية، إلّا باعتبارها وسيلة، ليس إلّا، من أجل تبرير استمرار العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة".
بدورها، أكدت صحيفة "الدستور" الأردنية أنه "لا يمكن أن يبقى مجلس الأمن صامتا أمام التجويع الممنهج للمواطنين الذي تنتهجه دولة الاحتلال في قطاع غزة، ولا بد من تكثيف العمل الدبلوماسي والقانوني والتحرك فورا لمتابعة الأوضاع والضغط لوقف إطلاق النار وإدخال المساعدات الإنسانية"، منبهة من الوضع الكارثي الذي خلّف أكثر من 170 ألف فلسطيني بين شهيد وجريح، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 11 ألف مفقود".
الموضوع عينه ناقشته صحيفة "الغد" الاردنية التي نبهت الى ضرورة إيقاف الحرب في غزة والذي يعتبر "أولوية الأولويات، لنزع صاعق قنبلة المستقبل قبل فوات الأوان، وبعد ذلك يجب التفكير مليًا عن الطريقة التي تمكننا من تجاوز الهزيمة". وقالت "نحن بأمسّ الحاجة إلى صدمة إستراتيجية توقظنا وتعيدنا إلى جادة الصواب، بل وتعيد ترتيب أولوياتنا نحو إنتاج مشروع للكرامة والاستقلال الشخصي عن الهيمنة اولاً، وسيبقى بعد هذه استقلالات عديدة".
صحيفة "الراي" الكويتية رأت أن "العلاقات بين الولايات المتحدة ومنطقة الشرق الأوسط تشهد تحولات كبيرة في الآونة الأخيرة، حيث توازن أميركا بين استخدام القوة العسكرية ومسارات الدبلوماسية الهادئة"، موضحة أن "هذا التداخل بين الحسم العسكري والحوار يمثل التحدي الأكبر في ظل تقلبات الأوضاع الأمنية والسياسية في المنطقة، حيث أحد أبرز المشاهد هو التأثير الأميركي المباشر على الأمن الإقليمي، خصوصاً مع التصعيد العسكري المستمر ضد الجماعات المدعومة من إيران".
من جهتها، تطرقت صحيفة "الأهرام" المصرية الى زيارة ترامب للمنطقة، حيث شددت على أن هناك "تفاؤل بحذر حيث الايام القادمة والزيارة قد تحسم أمورًا طال التخمين بشأنها، كثيرون منشغلون بالتفكير في مستقبل المنطقة، وماذا سيفعل أهل المنطقة مع نتنياهو الذى يريد تغيير وجه الشرق الأوسط، عبر التهديد طيلة الوقت بالمغامرات العسكرية". وتابعت "زيارة ترامب فرصة قد لا تتكرر، وبالتالي لابد من الاستغلال الأفضل عربيًا لهذه الجولة، وأن نحدد سقف المطالب وفق الاولويات العربية، لأن الأوراق التي بيد العرب الآن لم تعد كثيرة، بعد حالة الخلل والتراجع التي ضربت ما كان يُعرف بمحور المقاومة والممانعة"، وفق وصفها.
(رصد "عروبة 22")