تأكيدًا لحقيقة أنّ التطوّر سُنّة الحياة، بدأت روسيا بعد حوالى عقدٍ من تلك التطوّرات صحوةً جديدةً بمجرّد تولي فلاديمير بوتين رئاستها، فأعاد ترتيب البيت الروسي سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا، واستعاد بالتدريج المكانة الدولية لروسيا في مجالها الحيوي المباشر أوّلًا من خلال تدخله في أحداث جورجيا 2008، ثم استعادته لشبه جزيرة القرم في 2014، وبعدها بسنة أقدم على التدخّل العسكري المباشر لحماية النّظام السوري ضدّ معارضيه اعتبارًا من 2015، ناهيك عن تعزيز علاقته بالصين، وتوسيع شبكة حضوره في أفريقيا وأميركا اللاتينية.
تصريحاته عكست سلوكًا للهيمنة من شأنه أن يقضي على ما تبقّى من حضور هزيل للقانون الدولي في العلاقات الدولية
ومع استمرار المحاولات الأميركية لاستكمال الطوْق حول روسيا بضمّ كلّ دول حلف وارسو السابق الذي مثّل القاعدة العسكرية للمعسكر الاشتراكي، بل وضمّ بعض الجمهوريات السوفياتية السابقة لحلف الأطلنطي، بدا أنّ الولايات المتحدة مُصرّة على تأكيد الطابع الأحادي لقيادة النظام الدولي، وعندما وصل الأمر إلى الحديث عن انضمام أوكرانيا لحلف الأطلنطي، وهي الجمهورية ذات الرّمزية التاريخية الفائقة لروسيا، ناهيك عمّا تضمّه من سكان روس في شرقها بصفةٍ خاصةٍ بدا أنّ هذه كانت ساعة الصّفر بالنسبة لبوتين فبدأ في فبراير/شباط 2022 عمليته العسكرية ضدّ أوكرانيا التي كان هدفها الاستراتيجي تأكيد المكانة العالمية لروسيا، وأنّ أحدًا لا يستطيع اتخاذ قراراتٍ تعتبرها ماسّةً بأمنها عكس إرادتها، ولقد استمرّت الحرب حتّى الآن ما يزيد عن ثلاث سنوات، وتحوّلت إلى حربٍ شبه عالميةٍ بين روسيا ومن يناصرونها ولو على نحوٍ غير مباشر من ناحية، وأوكرانيا وداعميها الأوروبيين بقيادةٍ أميركية من ناحية أخرى، ولم تُحسم الحرب على الرَّغم من تحقيق روسيا مكاسب إقليمية واضحة حتّى فاز ترامب برئاسة الولايات المتحدة في انتخابات 2024.
وقد أدخل فوز ترامب مُتغيّرًا جديدًا إلى المعادلة. صحيح أنّ الوزن الأميركي فيها مستقلّ عن شخص الرئيس، غير أن توجّهاته بحدّ ذاتها متغيّرٌ ينبغي الانتباه إليه، خصوصًا بالنظر إلى آرائه وقراراته المُثيرة للجدل، وقد أتى على سبيل المثال بمقولة إنهاء الصراعات القائمة سواء كانت الحرب في أوكرانيا أو في الشرق الأوسط التي ارتبطت بتحرّكات عديدة في هذا الصدد. كذلك، استأنف على نحوٍ أشدّ سياسته التي اتّبعها في ولايته الأولى الخاصّة بالتعريفات الجمركية، ودخل في مفاوضات مع إيران حول برنامجها النووي مصحوبةً كالعادة بتهديداتٍ بأسوأ العواقب إن لم تُفْضِ المفاوضات للنتيجة التي يرجوها، غير أنّ الأهم في مواقفه ارتبط بتصريحاته التي عكَست نزعةً توسّعيةً وسلوكًا للهيمنة من شأنه أن يقضي على ما تبقّى من حضورٍ هزيلٍ للقانون الدولي في العلاقات الدولية، فقد طالب بضمّ كندا وغرينلاند، واستعادة السيطرة على قناة بنما ما لم يتمّ إعفاء السفن الأميركية من رسوم العبور، ووسّع مطالبته بالإعفاء لقناة السويس لاحقًا، وقبل ذلك تحدّث عن تهجير سكان غزّة، بل وشرائها وتوزيع أجزاء منها بين دولٍ أخرى، وغير ذلك من الخُزعبلات السياسية التي تفتح الباب لمطالباتٍ بنصيبٍ في عائدات النفط من كبريات الدول المصدّرة لأنّ الشركات الأميركية ساعدتها على اكتشافه، أو في الأصول الأوروبية لأنّ أوروبا تعافَت بعد الحرب الثانية بفضل "مشروع مارشال" وهكذا.
كل المؤشّرات تشير إلى أنّ ترامب ظاهرة مؤقتة
يُلاحظ أن ترامب لم ينجح حتى الآن في تحقيق أيٍّ من أهدافه، لأنّ القوّة وحدها لا تكفي للنجاح، ولأنّ سقف مطالبه من الآخرين يدفع أكثرهم اعتدالًا واستعدادًا للتعاون إلى رفضها، وسوف يحقق إنجازًا لو نجح في التوصّل إلى تسويةٍ سلميةٍ للحرب في أوكرانيا أو للملف النووي الإيراني، لكنّ نجاحه في مطالبه التوسّعية وتلك التي تنطوي على بلطجةٍ سياسيةٍ واضحةٍ مستحيل، لأنه يلقى مقاومةً واضحة، وسوف يعني نظامًا دوليًا جديدًا لا وجود مُطلقًا فيه لـ"ورقة التوت" المسمّاة بالقانون الدولي، وهو ما لا يمكن أن يُشَكِّلَ نموذجًا لنظامٍ دوليّ جديدٍ، وعمومًا فإنّ كل المؤشّرات تشير إلى أنّ ترامب ظاهرة مؤقتة، فأحلام الولاية الثالثة مستحيلة، بل إنّ سيطرته الكاملة على مجلسَي الكونغرس تبدو في طريقها للنهاية مع انتخابات التجديد النصفي في 2026 في ضوء التراجع الحادّ وغير المسبوق في شعبيّته الذي أظهرته آخر استطلاعات الرأي.
(خاص "عروبة 22")