تمّ إنشاء القناة خلال الفترة من عام 1859 حتّى افتتاحها عام 1869. وفي نصف تلك الفترة، كانت الولايات المتّحدة تغوص في مستنقع حربها الأهلية الضّارية، ولا تملك مساعدة نفسها حتّى تساعد أحدًا، ولم يأتِ لها ذكرٌ أصلًا في أي شيء متعلّق بحفر القناة التي تناوب مليون مصري، تمّ نزعهم من قراهم ومدنهم، على العمل بالسخرة لحفرِها بأدواتٍ بدائية. أي أنّ خُمس سكّان مصر شاركوا في حفر القناة، حيث كان عدد سكان مصر آنذاك نحو 5 ملايين نسمة، وراح 120 ألفًا منهم ضحيةً لضغط العمل اليدوي المُرهق وسوء المعاملة وبؤس نظام التغذية والإقامة وانعدام الرعاية الصحية ممّا جعل الخسائر البشرية فادحةً في أوقات انتشار الأمراض والأوبئة بالذّات وبخاصةٍ الكوليرا. أي أنّ مصر فقدت 2.4% من سكّانها في حفر القناة، وكانوا كلّهم في سنّ الشباب والعمل والإنتاج.
مصر دفعت 92.9% من تكاليف القناة وقدّمت الأرض والعمالة واستدانت لأوّل مرّة
بلغت تكاليف إنشاء قناة السويس حتى افتتاحها للملاحة نحو 451.7 مليون فرنك فرنسي أي أقل من 18 مليون جنيه مصري، تحمّلت مصر منها نحو 16.8 مليون جنيه عبارةً عن 3.406 ملايين جنيه قيمة 44% من أسهم القناة، و1.2 مليون جنيه نفقات إنشاء الترعة العذبة، و5.814 ملايين جنيه فوائد ونفقات سمسرة وتحكيم، و1.2 مليون جنيه تعويضات إضافية للشركة تمّ إقرارها في 1869، و1.4 مليون جنيه نفقات حفلات افتتاح القناة. أي أنّ الشركة لم تتحمّل سوى 1.2 مليون جنيه تُعادل 7.1% من تكاليف إنشاء القناة، وتحمّلت مصر 92.9% من تكاليف إنشائها، فضلًا عن تكلفة عنصر العمل الذي قُدّم مجانًا للشركة لمدة 9 سنوات، وقيمة الأرض التي مُنحت للشركة مجانًا. باختصار دفعت مصر تكاليف إنشاء القناة من لحمها الحيّ.
نصب واحتيال مالي أوروبي بلا حدود
بسبب مشروع حفر قناة السويس، استدانت مصر لأوّل مرةٍ في تاريخها الحديث في عهد واليها محمد سعيد الذي عقد أوّل قرضٍ بقيمة 3.244 ملايين جنيه عام 1862، وحصلت مصر على 2.4 مليون جنيه فقط، وذهب الباقي لمصاريف السمسرة التي بلغت أكثر من 26% من القيمة الإجمالية للقرض، وهي سرقة فجّة.
نتيجةً لتكلفة حفر قناة السويس والغرامات اللصوصيّة الظالمة البالغة 115 مليون فرنك مع فوائدها والتي أقرّها نابوليون الثالث على مصر مقابل استعادتها لأرضٍ منحتها مجانًا للشركة ولامتيازات مجانيّة أخرى، تفاقمت الديون الخارجية لمصر وبلغت نحو 35 مليون جنيه مصري.
حُرمت مصر من حصتها من أرباح الشركة لمدة 25 عامًا، مما اضطرّها للاقتراض مُجَدّدًا لمواجهة وخدمة القرض القديم، فاقترضت 32 مليون جنيه من بنك "أوبنهايم". ولم يدخل الخزينة العامّة من هذا القرض سوى 20.74 مليون جنيه، أي أنّ هناك أكثر من 11 مليون جنيه ذهبت للسماسرة، وهي تعادل 37% من قيمة القرض الإجمالية، وهي سرقة فجّة اقترفتها الرّأسمالية المالية الأوروبية اللصّة.
بعد عزل الخديوي إسماعيل، ضغطت بريطانيا على نجله الضعيف محمد توفيق التابع لها لبيع أسهم مصر في القناة بأقلّ من ربع قيمتها، مع تعويضها بنسبة 5% من قيمة الصفقة سنويًا لأنّ تلك الأسهم كانت محرومةً من الأرباح حتى عام 1894، أي أنّ مصر أعادت لبريطانيا كلّ ما دفعته ثمنًا لشراء أسهم مصر في القناة! وأصبحت غريبةً عن قناتها المُغتصبة عبر سلسلة احتيالاتٍ لصوصيّةٍ أوروبيّة.
نعم لم تشارك أميركا في العدوان الثلاثي عام 1956 لكنّها لم تمنعه
عندما استقلّت مصر بشكلٍ كامل، أمّمت القناة لاستخدام عائدها في تمويل بناء السدّ العالي، بعد أن رفضت بريطانيا والولايات المتحدة والبنك الدولي تمويله، وأيضًا لاستعادة حقّ مصر المنهوب في القناة مع تعويض حملة الأسهم وفقًا لسعرها في البورصة. لم تقبل بريطانيا بذلك وشنّت حرب 1956 على مصر، وشاركتْها فرنسا المُحتقنة من دعم مصر للثورة الجزائرية، وشارك الكِيان الصهيوني أملًا في تحطيم مصر وإيقاف نهوضها بعد الاستقلال.
صحيح أنّ الولايات المتحدة لم تشارك في العدوان، لكنّها لم تفعل شيئًا لتمنعه، بل كانت أحد أسباب الأزمة برفضِها تمويل السدّ العالي وتحريضها للبنك الدولي الذي تهيمن عليه لرفض التمويل، مما اضطرَّ مصر لتأميم القناة.
تاريخ الغرب كلّه مع قناة السويس هو تركيزٌ لروح النّهب واللصوصيّة
أمّا مَن دَعَمَ مصر فهم كلّ أحرار العرب والعالم الذين رفضوا العدوان في تظاهراتٍ هائلةٍ لم تسْلم منها لندن وباريس، والصّين التي عرضت المساندة المباشِرة بمليون متطوّع. والاتحاد السوفياتي الذي هدّد بضرب بريطانيا وفرنسا في إنذارٍ تاريخيّ نصَّ على أنّ "لندن وباريس ليستا بعيدتيْن عن مدى الصواريخ النّووية السوفياتية"، ونصَّ على أنّ "إسرائيل" المشارِكة في العدوان "تعبث على نحوٍ إجراميّ غير مسؤولٍ بمصير العالم وبمصير شعبها وتبذر بذور الكراهية لدولة إسرائيل فيما بين الشعوب الشرقية وهو أمر لا بدَّ أن يترك آثاره في مستقبل إسرائيل ويشكّك في وجود إسرائيل ذاتِه كدولة".
باختصار، تاريخ الغرب كلّه مع قناة السويس هو تركيزٌ لروح النّهب واللصوصيّة التي رافقت عصر الاستدمار العسكري وما زالت مستمرةً بصورٍ أخرى، ويريد ترامب إحياءها بأشدّ الصور فجاجةً وخبَلا. وهي كانت في سيرتها الأولى مأساة، وفي صورتها الترامبية ملهاة أو مسخرة!.
(خاص "عروبة 22")