لم يكن ذلك الصوت الذي خرج من أرشيف الزّمن مجرّد وثيقةٍ نادرةٍ، أو تسجيلاً منسيًا، بل بدا وكأنّ الماضي قد قرّر أن يعود لا ليحكي، بل ليُحاسب. لم يكن الحديث مُسجّلًا فقط بصوت عبد الناصر، بل مُحمّلًا بحضوره. ليس حضور الشخص، بل حضور الفكرة.
كان حديثًا هادئًا، لم يكن خطبةً من شرفة، ولا هدير صوتٍ في ميْدان. كان خافتًا، مُتَأَنِّيًا، يَشي برجلٍ يُدرك أنّ المشروع الذي حمله سنواتٍ طويلةً بدأ يصطدم بجدران واقعٍ عربيّ غير موات. على الرَّغم من ذلك، لم يَبْدُ في صوتِه نغمة هزيمة، بل كان واعيًا بحدود اللحظة، ثابتًا في منطقه، مؤمنًا بأنّ السياسة ـ في بعض الأوقات ـ لا تنتظر معجزة، بل تُمَارَسُ كفنٍّ لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
جاء التسجيل تأكيدًا على أنّ حضور عبد الناصر لم ينتهِ برحيله
كانت عينُه على الخريطة السياسيّة، تُحلّل وتُراجع، لكنّ عقله ظلّ مشدودًا إلى ميدان القتال؛ يُعدّ العدّة ويستبق اللحظة، كأنّما يقول: الواقعيّة لا تعني الرّضوخ للواقع، بل الاستعداد الأذكى للمواجهة القادمة.
أثار التسجيل اهتمامًا واسعًا، لم يكن مصدر الاهتمام مجرّد "نوستالجيا" إلى زمنٍ مضى، بل جاء تأكيدًا على أنّ حضور عبد الناصر لم ينتهِ برحيله. بل لعلّه بدأ، بشكلٍ أعمق، بعد ذلك الرحيل.
ذلك أنّ عبد الناصر لا يزال يتردّد في النّقاشات، في المُقارنات، في لحظات الفراغ وهي كثيرة، وفي الأسئلة الكبرى وهي مُعلَّقة.
يُذْكَرُ عبد الناصر لا كرمزٍ فقط، بل كمعيار: كلّ حديثٍ عن استقلال القرار الوطني يُقاسُ به. كلّ تفكيرٍ في السيادة يُقارَن بتجربته. كلّ محاولةٍ لصياغة مشروعٍ عربيّ، حتى وإنْ نُقضت، تبدأ من عنده. فهو، وإن رحل، لم تُطْوَ بعد صفحتُه.
المفارقة الكبيرة ـ وربّما العجيبة ـ أنّ استحضاره لم يعد مُقتصرًا على أنصاره. حتّى خصومه، بل وبعض من بنوا سياساتهم على النّقيض من سياساته، لا يجدون بُدًّا من العودة إليه. يقتطعونه من سياقه ليبرّروا سياساتهم. ينتزعون بعض جُمله، ليُظهروا أنه لم يكن بعيدًا عنهم. يُشيرون إلى واقعيّته، بينما يُغفلون مشروعه الأشمل. ينتقدون سلطويّته، لكنّهم يتناسون أنه، على الرَّغم من كلّ شيء، كان مؤمنًا بأنّ الأمّة لا تنقاد بالعصا، بل تُقاد بالحلم.
لا يُستدعى عبد الناصر في الحقيقة إلّا لأنه لا يزال حيّا. الميت لا يُستحضر إلّا إذا كان غيابه يملأ الزّمان حضورا.
كلّ مرةٍ يُذكر فيها اسمه، نكتشف أنّ السؤال لم يُحْسَمْ، وأنّ التجربة لم تُنهَ بعد، وأنّ الزّمن العربي، منذ رحيله، لا يزال يتوقّف عنده، كلّما حاول أن يبدأ من جديد.
حين نتأمّل المشهد المصري والعربي اليوم، نجد أنفسنا أمام مفارقةٍ تكاد تكون قَدَرًا في مسار التاريخ السياسي للأمم.
جمال عبد الناصر، الذي غادرنا منذ أكثر من نصف قرن، لا يزال حاضرًا، لا فقط في الذاكرة، بل في تفاصيل المشهد اليومي، كأنّه جزء عضوي من التركيبة الفكرية والسياسية التي عجزت عن إنتاج بديلٍ يُغني عن إرثه.
القضية لم تعُد استدعاءً لشخصيةٍ تاريخية، بل هي مؤشّر إلى فراغٍ ممتدّ. فراغ لا تملؤه الوجوه الجديدة، ولا تغطيه بيانات الحكومات.
تجد الأمّة نفسها في لحظة افتقادٍ لرؤيةٍ قياديةٍ جامعة، رؤية قادرة على التعامل مع معادلات القوة والتحدّيات المُحيطة من دون أن تكون رهينةً لمُعادلات الآخرين.
حين نعود إلى تلك الجدليّة التي أثارها التسجيل، نجد أنفسَنا أمام حالة تفاعلٍ حيّةٍ، بين إرْث عبد الناصر من جهةٍ، ومحاولات إلغائه، أو اختزاله، أو إعادة تشكيله، من جهةٍ أخرى.
يتحوّل عبد الناصر من مشروع وطنيّ وقوميّ إلى بطاقة مرور تُخرجها الأنظمة حين تحتاج للشرعية
الحنين إلى عبد الناصر ليس عاطفةً مشبوبة، بل انعكاس لحاجة الأمّة إلى نموذجٍ يُعيد تعريف الهوية الوطنية ويطرح رؤيةً تتجاوز اللّحظة الراهنة إلى مستقبلٍ أكثر وضوحًا واتساقًا مع إرادة الشعوب وتطلّعاتها.
استحضار عبد الناصر لم يعُد حكرًا على أنصاره. صار حتّى خصومه يُلوّحون باسمه حين تقتضي الضرورة. يستدعونه وهم ينقضون مشروعه. يستخدمون رمزيّته وهم يمضون على عكس ما كان يؤمن به.
تلك مفارقة أخرى.
أن يتحوّل عبد الناصر من مشروعٍ وطنيّ وقوميّ إلى بطاقة مرورٍ تُخرجها الأنظمة حين تحتاج للشرعية، ثم تُخفيها وقت التنفيذ.
أن يصبح، في آنٍ واحدٍ، مسوّغًا للتخاذل، وأداةً للتجميل.
الذين يهاجمونه، يفعلون ذلك لأنهم يعجزون عن تجاوزه.
الذين يحبونه، لا يفعلون ذلك حبًّا في ماضٍ زال، بل لأنّهم لم يجدوا من يملأ مكانه، لا في الهيبة، ولا في المكانة، ولا في الحلم.
لماذا لا يكفّ خصوم عبد الناصر عن استحضاره؟ لماذا، بعد كل هذه السنوات، لا تزال النُّخب الجديدة تنشغل بالرجل؟، ولماذا، حتى وهو في القبر، لا يستطيعون الإفلات من ظلّه؟.
لو تأمّلنا المشهد المتكرّر جيّدًا، لوجدنا أنّ عبد الناصر لا يُستَحضَرُ في الحقيقة، بل يُقاس عليه.
السبب في ذلك أنّ عبد الناصر، شاءوا أم أبوا، يشكّل معيارًا ثقيلًا. هو ليس فقط تجربةً تاريخيةً، بل مرآة تُحرج الذين جاؤوا بعده.
وجوده المستمر، حتى ولو كشبحٍ من الماضي، هو فضيحةٌ صامتةٌ للبدائل التي لم تكن بدائل، للمشروعات التي لم تكن مشروعات، وللقادة الذين لم يكونوا زعماء.
يقتطعون من عبد الناصر ما يُناسب سرديّتهم. يستحضرون براغماتيّته في قبول التسويات، لكنّهم ينسون أنّ تلك البراغماتية كانت مؤقتةً، دفاعيةً، موجهةً لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، ولكنّها أبدًا لا تعميه عن ثوابته وانحيازاته ومبادئه.
يُشيرون إلى مركزيّته الصّارمة، لكنهم يتناسون أنه كان ابنًا لحلمٍ جماهيريّ، لا وكيلًا عنه. هم لا يريدونه كاملًا، بل مُنتقى. نسخة محدودة الصلاحية، جاهزة للاستخدام وقت الحاجة.
كان الشخص الوحيد الذي حمل مشروعًا متماسكًا
مشكلتهم مع عبد الناصر أنه لا يُختَزل. لا يُباع بالقطعة. هو مشروعٌ متكاملٌ، إمّا أن يُؤخذ بكلّيته، أو يُترك بكلّيته. لأنه، ببساطةٍ، لم يكن شخصًا... بل لحظة وعيٍ كامل.
لم يكن عبد الناصر معصومًا، ولا تجربته خَلَت من الأخطاء، لكنّه، في واحدة من لحظات هذا الشرق، كان الشخص الوحيد الذي حمل مشروعًا متماسكًا، مشروعًا فيه فكر، وفيه جذرٌ اجتماعي، وفيه تصوّرٌ للعالم وحركةٌ واسعة في الإقليم، وتحرّكٌ واعٍ في دوائر الفعل على خريطة المعمورة.
في زمنٍ تعيش فيه السياسة على هوامش الإدارة، وتكتفي فيه الأنظمة بالصّمت، يعود عبد الناصر لا بوصفه زعيمًا تاريخيًّا، بل بوصفه سؤالًا مُقيمًا، عن السيادة، عن الاستقلال، عن العدالة، عن مكانة مصر في العالم، عن المعنى الحقيقي لكلمة وطن، عن العروبة التي صارت مُستباحة.
السّؤال الذي يؤرق من يُغيظهم أنّ عبد الناصر ما يزال حيَّا في الذاكرة القومية هو: لماذا لا يزال موته مستحيلًا؟.
(خاص "عروبة 22")