"الخوارزميات ضدّ المجتمع" هو عنوان كتاب حديث الإصدار في المكتبات الفرنسية، لمؤلفه هوبير غيّيو (Hubert Guillaud)، وهو كاتب وصحافي، متخصّص في الأنظمة التقنية والرقمية، ومن ذلك الاشتغال على تأثير الأنظمة التقنية والتطبيقات الرقمية في المجتمع، ومن هنا عنوان كتابه، والذي يمكن تلخيص أهم مفاتيحه ذات الصلة بتلك الثورة في نقاطٍ ثلاث: التمييز والفوضى وعدم الاستقرار: المقصود بالتمييز الوتيرة التي تشتغل بها الثورة الرّقمية، والمقصود بالفوضى أحد أهم المخاطِر اللّصيقة بها من قبيل ما نعاينه في الحقليْن العسكري والطبي، أمّا عدم الاستقرار فإنّ الأمر يكاد يكون تحصيل حاصل إذا أخذنا بعين الاعتبار بعض مقتضيات مفتاحيْ التمييز والفوضى.
ينطلق المؤلّف من تعريفٍ شهيرٍ للتكنولوجيا الرّقمية صدر يومًا عن عالم الاجتماع دومينيك كاردون (Dominique Cardon) في كتابه المدرسي "الثقافة الرقمية"، مفاده بأنّ "التكنولوجيا هي حقبةٌ جديدةٌ من الإنتاجية تكون فيها المعلومات والاتصالات والحساب هي المحرّكات الرئيسية"، ليضيف تنويعات على التعريف نفسِه، ومن ذلك أنّ تلك التّكنولوجيا الرقمية هي مشروعٌ صناعيٌ شاملٌ، حيث يتمّ استخدام المعلومات والاتصالات والحساب لتحقيق مكاسب جديدة في الكفاءة. ويضيف هنا مصطلح الصناعي ومصطلح الإجمالي، لأنّ المشروع يهدف إلى ربط المالية بالحساب المحاسَبي والموارد والعمل والاجتماعي بالمحاسبة والحساب المالي، في الوقت الفعلي.
"سياط رقمية" خاضعة للمنطق الرّأسمالي نادرًا ما يُسيطر عليها الأفراد
مع التّكنولوجيا الرّقمية، العالم إزاء مشروع تكاملٍ وإتقانٍ معياريّ من خلال الأرقام والحساب، حيث يتمّ أخذ كلّ عنصرٍ في الاعتبار ويؤثّر في العناصر الأخرى. تبقى التكنولوجيا الرقمية الأداة لجعل ترشيد الموازنة فعّالًا في كلّ مكان، كما تروم علاج المزيد من المستفيدين بعددٍ أقلّ من الموظفين، والمزيد من الخدمات بموارد أقلّ. إنّها قطعًا أداةٌ غير محايدةٍ وتهدف إلى إجراء المعالجة الجماعية مع تقليل تكاليفها الفورية، ولأنّ أيّ آلة ليست محايدة، فإنّ هذا الحل التكنولوجي، الذي يُعَمّم عالميًا بهدوء المنطق التمييزي، يخدم مشروعًا سياسيًا، فوراء ما يُسمّى بحيادية الآلة عند مروّجي الخيار التكنولوجي، هناك آليات للسيطرة والمُنافسة تضغط على المواطنين.
المشهد أقرب إلى "سياط رقمية" خاضعة للمنطق الرّأسمالي والتي نادرًا ما يُسَيطر عليها الأفراد، على الرَّغم من بعض الأمثلة المضادّة. وعلى الرَّغم من زعم التكنولوجيا الرّقمية أنّها تُتيح لنا إجراء معالجةٍ تتوسّع وقابلة للتطوير وتَعِدُ بأن تكون أكثر اقتصادًا وأسرع وأكثر كفاءةً، لكنّ المسكوت عنه في هذا الخطاب التقني الوردي أنّ هذه الرؤية للتكنولوجيا الرقمية تنهل من إيديولوجيةٍ تدور في أفلاك السرعة والاقتصاد والكفاءة، من دون أن تُظهر أنّها لصالح البعض وعلى حساب البعض الآخر. إنّها تعكس التعايش بين الرّأسمالية والمشروع الرقمي. وراء الترابط الكلي، هناك توجهٌ سياسيّ أو أهداف مخصّصة. (وهذا ما يعاينه العالم اليوم بشكل جلّي في الحملة الانتخابية التي ميّزت الرئاسيات الأميركية، مع حضور مدراء أهم مؤسّسات "الغافام"، فالأحرى في مرحلة ما بعد فوز دونالد ترامب).
ألا يرغب إيلون ماسك ودونالد ترامب في نشر الذّكاء الاصطناعي عبر الإدارة الأميركية، وربط قواعد بياناتها المتعدّدة وإعداد واجهة برمجة تطبيقات للتحكّم فيها جميعها؟ مضيفًا أنّ تهديد الذّكاء الاصطناعي ليس ذكاءً فائقًا، بل على العكس من ذلك هو الحلّ الشعبوي الذي يخاطِر بالخروج من التقارب بين رأسمالية "وادي السيليكون" والسياسة اليمينية المتطرّفة.
من المخاطِر التي يُحذّر منها المؤلّف أيضًا في عمله، بل إنّ الأمر يتعلّق ببيْت القصيد في كتابه هذا كما تفيد دلالات عنوان العمل، التنبيه إلى أنّ خوارزميات التوصية عبر الإنترنت، والعديد من تطبيقات الذّكاء الاصطناعي والتحليل التلقائي للسيَر الذاتية للمرشحين، تُمَهّد عمليًا لكي تصبح القدرة المُطلقة للحسابات في حياتنا اليومية مجرّد تشخيصاتٍ خاطئةٍ وقراراتٍ غير مُجسّدة، ستكون لها بالضرورة عواقب اجتماعية كارثية، ومن ذلك على سبيل المثال أنّ التركيز على الخوارزميات التي تستخدمها صناديق الإعانات العائلية، ستؤدّي، تحت ستار مكافحة الاحتيال، إلى زيادة قمع الفئات الأكثر خطورة، أو أنّ نشر أنظمة المعاملة الجماعية للمستفيدين من المساعدات أو الخدمات العامّة يُمثّل إشكالية، لاعتبارٍ بَدَهي مفاده بأنّ السبب لا يكمن في خيارات التنمية بقدر ما هو موجود في الاعتبارات الإيديولوجية التي تحكمها.
الهدف هو إدارة النقص وتوسيع نطاقه، "نزع الطابع المادي" تحت ذريعة "التحديث"، وليس تقديم الخدمات العامة التي تُقدّم الخدمة التي نتوقعها، ولكن تقديم خدمات عامّة تُحقّق مكاسب اقتصادية، وربحية، وِفقًا لمنطق التقشّف، مُضيفًا أنّ الاستغلال المُفرط للبيانات الضخمة ("بيغ داتا") يساهم في إعادة إنتاج مجتمعٍ مجمّدٍ تحت وطأة الحتميّات، كأنّه يدعو القرّاء إلى استحضار ما حذّر منه منذ منتصف القرن الماضي، الروائي البريطاني جورج أورويل في رائعته "1984".
يدعونا المؤلّف إلى الدفاع عن حدٍّ أدنى من نزاهتنا الرّقمية
ميزة الكتاب أنّه مؤسّس على نتائج العديد من الأعمال البحثية التي تصبّ في تزكية مضامينه، منها أنّ تنفيذ الأنظمة الرّقمية في المجال الاجتماعي ينتج عنه دائمًا انخفاض في الحقوق ضدّ الأكثر حرمانًا. العديد من الأنظمة الاجتماعية التي تمّ وضعها منذ ذلك الحين - بخاصّة في الولايات المتحدة أو أستراليا، في المملكة المتحدة، في هولندا، وفي فرنسا أيضًا - مختلّة بشكلٍ كبير، إضافةً إلى أنّ التحيّزات والتقشّف والمنطق الليبيرالي الذي يرأس نشر الأنظمة لا يُنتج إلا تدهور النُّظُم الاجتماعية والخدمات العامّة، والعدالة والإنصاف اللذيْن لا ينبغي أن يتوقفوا عن الميْل إليهما.
من باب الانتصار لبعض التفاؤل أو الأمل، يدعونا المؤلّف إلى الدفاع عن حدٍّ أدنى من نزاهتنا الرّقمية من خلال إجبار الشركات والإدارات على أن تكون أكثر شفافيةً ومن خلال تعزيز قدرة الأفراد على التحكّم في طريقة معالجة بياناتهم، داعيًا أيضًا إلى إعادة اختراع التّكنولوجيا الرّقمية لتجنّب الفخ الذي تنصبه لنا: من خلال إعادة بناء الخدمات العامّة، واختراع مقاييس جديدة، وقبل كل شيء من خلال إعادة الديموقراطية والعدالة إلى القرارات التقنية.
(خاص "عروبة 22")