تقدير موقف

إيديولوجيا الفوضى الهدّامة: "وصايا" ليو شتراوس!

كلّما ولج البيت الأبيض رئيسٌ جمهوريّ، تجدّد النقاش عن ذاك "الفريق" من السّاسة والباحثين والأكاديميين ورجال الصحافة والإعلام، الذين توافقت الأدبيّات على نعتِهم بـ"المُحافظين الجُدُد"، كامتدادٍ لتيار أولئك الليببراليين الذين نادوا من زمنٍ بعيدٍ بضرورة "العودة للأصل"، أي إلى "الطبيعة البشرية" التي رفع لواءها الآباء المؤسِّسون.

إيديولوجيا الفوضى الهدّامة:

على الرَّغم من تبنّيهم المُطلق لأفكارٍ وتصوّراتٍ مُحدّدة، فإنّ مجال المُحافظين الجُدُد بقي محصورًا ومُشتّتًا بين الجامعات والمعاهد ومراكز الدراسات، ولم يتسنَّ لهم التواصل، فيما بين بعضهم بعضًا، إلا عبر الأفكار ونشر الآراء، دونما قدرةٍ على ترجمة "مشاريعهم" إلى سياساتٍ عملية.

المحافظون الجُدُد باتوا العصب النّاظم لثلاثية السلطة والمال والإعلام

مثَّل انتخاب بوش الابن التدشين الفعلي لبلوغ المُحافظين الجُدد السّلطة ووضع تصوّراتهم على محكّ الممارسة، وتحوّلهم إلى تيارٍ قائمٍ لا يخجل أعضاؤه من الصفة المعطاة لهم، أو الانتقادات الموجّهة إليهم. ومع أنّهم لا يزالون في كبريات الجامعات ومراكز البحوث والدراسات يُهَيْمنون على أقسامها الحسّاسة ويزوّدون المؤسّسة الحاكمة بالدراسات والتقارير والتوصيات، فإنّ غالبيتهم أضحت من تاريخه، في محيط صناعة القرار مباشرة. لقد باتوا العصب النّاظم لثلاثية السلطة والمال والإعلام، في الجهاز التنفيذي كما على مستوى مؤسّسات التشريع، في عالم الأفكار كما بمستويات ترجمتها إلى برامج وسياسات وتوجّهات.

توالى الرؤساء، لكن مقام المُحافظين الجُدد وتأثيرهم لم يتغيّرا. لقد بقوا ينهلون من معين مُلهمهم الرّوحي الأبرز: ليو شتراوس.

لم يكتب ليو شتراوس في السّياسة ولا في العلاقات الدولية. تخصّص في الفلسفتيْن الوسيطتيْن الإسلاميّة واليهوديّة، وعمل على تدريسهما إلى حين وفاته بداية سبعينيّات القرن الماضي. هو من أولئك الفلاسفة الذين غالبًا ما تخضع أفكارهم للتأويل السياسي، لكنها تتوارث، اعتبارًا لبريقها، من جيلٍ إلى جيل، وتنتقل من مجال المعرفة المجرّدة إلى حقول التطبيق العمليّة.

ينبني مشروع ليو شتراوس على فكرتين بسيطتين اثنتين:

- فكرة النّخبة العالِمة والنّزيهة، المالكة لسلطان المعرفة، والتوّاقة لبلوغ السلطة بغرض ضمان النفاذ لمعرفتها و"إشاعة حكمتها لخير البشريّة".

- فكرة مكافحة النسبيّة الأخلاقية "على اعتبار أنّ الحقيقة الفلسفيّة لا تقبل التسويات".

بنخبتها العالِمة و"سيادة الحقيقة" من بين ظهرانيها، يرى شتراوس أنّ أميركا إنّما تملك "رسالةً أخلاقيةً لا يجوز التنازل عنها في الداخل ولا التفاوض بخصوصها مع الخارج". إنّها مطالبة "بضرورة التدخّل لتحقيق الفكرة المُطلقة والرّسالة من دون تردّد"، حتى وإن استدعى الأمر تجاوز القانون وخرْقه.

يقول شتراوس بهذا الخصوص إنّه "لمِن السخافة حقًا أن نعيق الانسياب الحرّ للحكمة بالقوانين... يجب أن يكون حُكْم الحُكماء مُطلقًا". بالتالي، فالديموقراطية الحقّة بنظره، هي "فعلٌ يتعارض مع أحكام الطبيعة، لذا يجب منعه كائنة ما تكن التكاليف"، على اعتبار أنّ القانون الطبيعي هو "شيء سماوي يُبرهن على نفسِه بنفسِه".

شتراوس وتلامذته لا يؤمنون بعدالة لا تكون القوّة والسّلطة قوامها

لا يقتصر الأمر، لدى شتراوس، على هذا الحدّ، بل يتعدّاه إلى تدوين وصايا كبرى أضحت نبراسًا لتيّار المحافظين الجُدُد وللرؤساء الذين تبنّوا تصوراتهم:

- الوصيّة الأولى: تلازم القوّة والديموقراطية. فإذا كان شتراوس وتلامذته يقدّمون مبدأ العدالة على الحرّية ومبدأ الحرّية على الديموقراطية، فإنّهم لا يؤمنون بعدالةٍ لا تكون القوّة والسّلطة قوامها، بل يذهبون لحدّ إدانة العدالة التي لا توظّف القوّة في تنفيذ محتوياتها.

- الوصيّة الثانية: التراتبيّة الاجتماعيّة في الحكم. الرئيس أوّلًا ثم حرّاسه، ثم أصحاب المهن، ثم في آخر الترتيب، العبيد والدهماء. لا اعتبار هنا لمفهوم الشعب ولا لمبدأ الأغلبية، ما دامت خاصّة القوم ونخبته العالِمة هي التي تقود.

- الوصيّة الثالثة: "الكذبة النبيلة". الكذبة عند شتراوس وأتباعه، هي "أداةٌ من أدوات السياسة الحكيمة... المهمّة والضرورية، ما دامت في خدمة المصلحة الوطنية".

هذه الوصايا الكبرى هي التي تقود سلوك وسياسة الولايات المتحدة لحدّ اليوم:

- إنها وصايا تحتقر الديموقراطية، لأنّها تُقدّم عليها العدالة والحرّية، وتُسوّقها لخدمة "الفكرة المُطلقة" التي تُحدّدها "النّخب العالِمة" في الجامعات ومراكز الأبحاث، ويُنفّذها الرؤساء بالسلطة.

- تحتقر الديموقراطية، لأنّها تركنها جانبًا، وتستعيض عنها بالقوّة.

- تحتقر الديموقراطية أخيرًا، لأنّها تؤمن بفكرةٍ مفادها بأنّ "الإنسان شرير جدًا، لذا يجب أن يُحكم".

مشاريع تقسيم المنطقة العربية تعمل على تقويض المُقوّض وتفتيت المُفتّت

هي إيديولوجيا الهدم بامتياز. وهي التي يتمّ تجريبها في المنطقة العربية، ولربّما هي التي أسّست لمنظومة "الرّبيع العربي". إنّها لا تقتصر على إبادة البشر "الشرّير" بطبعه، بل إلى إعادة تشكيل المؤسّسات الرمزية باعتبارها دعامة اللُّحمة الوطنية وركائز التركيبة الاجتماعية ومقوّمات المرجعيّة الجامعة التي يحتكم إليها.

إنّ مشاريع تقسيم المنطقة العربية الجارية حاليًا، إنّما تتطلّع إلى خلق دويْلاتٍ جديدةٍ على أنقاض الدولة الواحدة، ومجالاتٍ جغرافيةٍ عِرقيةٍ أو مذهبيةٍ على أنقاض المجال الجغرافي الواحد، وحدودٍ سياسيةٍ جديدةٍ على أنقاض الحدود الوطنية القائمة. إنّها تعمل على تقويض المُقوّض وتفتيت المُفتّت.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن