يرى الكثير من المُراقبين أنّ الخطوات الأميركية الواسعة، التي بلغت حدّ العسْكرة الكاملة لمياه البحر الأحمر وبحر العرب، وما تلاها من طلب مَنْحِ السفن الأميركية حقّ العبور المجّاني من قناة السويس، نظير ما تفرضه - حسب زعم دونالد ترامب - من حمايةٍ للمرفق الملاحي الدولي، تستهدف بالأساس إضعاف المبادرة الصينية، التي تشمل 17 دولة عربية من بينها مصر، وتلعب فيها قناة السويس دور "رأس الحربة"، عبْر تقويض فرص الصين في الحصول على احتياجاتها من البترول العربي من جهة، وإعلان واشنطن هيمنتها الكاملة على الممرّات الملاحيّة في الشرق الأوسط من جهةٍ أخرى، والتأكيد على أنّها لا تزال تمسك بخيوط القيادة الدولية للعالم الذي تشكّل بعد انتهاء الحرب الباردة.
تعكُس التحرّكات العسكرية الأميركية الأخيرة في البحر الأحمر، طبيعة استخدام القوى العالمية الكبرى للمضائق والممرّات المائية، كأداةٍ لخدمة مصالحها في ظل الصّراع الجيوسياسي الحالي، وهو ما يشير بوضوح، حسبما ترى الدكتورة جهاد نصر، الخبيرة في شؤون الأمن الاقليمي، والمدرّس المُساعِد في قسم العلوم السياسية بجامعة ٦ أكتوبر، إلى تحوّلها إلى أداةٍ مهمةٍ من أدوات الصراع بين هذه القوى، في ظلّ الحرب الاقتصادية التي تدور رحاها حاليًا، بين تحالف الصين والدول الأعضاء في مبادرة "الحزام والطريق" من جهةٍ، والولايات المتحدة الأميركية وحلفائها من الدول الأعضاء في مبادرة "ممرّ التنمية" من جهةٍ أخرى، وهو الصراع الذي ستكون نتائجه أكثر فتكًا من النتائج التي تنتهي إليها الحروب العسكرية، وربّما يتجلّى ذلك في محاولات الهيمنة الأميركية منذ قدوم الرئيس دونالد ترامب، على مضيق هرمز الذي يُصنَّف بين أهم الممرّات المائية في العالم، كونه يُمثّل البوّابة الرئيسية لصادرات النفط من دول الخليج العربي الى مختلف دول العالم، وبخاصةٍ الصين التي تعتمد على نحو 47% من إجمالي احتياجاتها النفطيّة على دول الشرق الاوسط، ودول الخليج العربي على وجه التحديد.
وقد ظلّ المضيق على مدار عقودٍ، بعيدًا عن بؤر التوتّر العالمية، استنادًا إلى موقعه الجغرافي الفريد الذي تمرّ من خلاله نحو 30% من تجارة النفط العالمية، قبل أن يدخل إلى حلبة الصّراع باستخدام إيران له كوسيلةٍ لرفع العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها، بالتهديد بإغلاقه اذا ما تطلّب الأمر، وهي التهديدات التي قوبلت بفرض سياسة الضّغط القصوى من إدارة الرئيس ترامب على إيران، على نحوٍ يؤشّر إلى ارتفاع حدّة التوتّرات في المضيق، في حال فشلت الخيارات الديبلوماسية بين واشنطن وطهران، ما قد يؤدّي إلى عواقب كارثيّة على المنطقة.
ولعبت تداعيات الحرب الاسرائيلية على غزّة، دورًا كبيرًا في زيادة حدّة التوتّر عند مضيق باب المندب، الذي يُصنَّف باعتباره مسارًا حيويًا لحركة النّفط والتجارة بين آسيا وأوروبا، وهو ما منح الحضور العسكري الأميركي والدولي في البحر الأحمر، مسوّغًا جديدًا، حسبما يرى اللواء حمدي بخيت، الخبير العسكري ومستشار أكاديمية ناصر للعلوم العسكرية، للظهور بقوّة تحت زعم حماية المضيق، على الرَّغم من أنّ الوجود العسكري الأميركي في المنطقة يسبق حرب غزّة بعقود، إذ يرجع الى بدايات العام 2001، عندما تأسّست القوة البحرية المشتركة (CMF) بمشاركة مجموعة من الدول المُتحالفة مع الولايات المتحدة الأميركية، ومن ضمنها حلف شمال الأطلسي، بقيادة الأسطول الخامس، ومسؤول القيادة المركزية للقوات البحرية الأميركية براد كوبر، قبل أن يُطلق الاتحاد الأوروبي في العام 2009 عملية "يوناففور أتالانتا" (Eunavfor Atalanta) لمكافحة القرصنة في مياه الصومال، بمشاركة إسبانيا وألمانيا والسويد واليونان وبريطانيا وبلجيكا وفرنسا وهولندا، وتضمّنت نشر ست سفنٍ وثلاث طائرات استطلاع ونحو 1200 فرد.
تقف قناة السويس في عيْن العاصفة، ضمن الخطة الأميركية للسيطرة على الممرّات الملاحية، بل إنّها تبدو في نظر الكثير من المحلّلين بمثابة الجائزة الكبرى في تلك الخطّة التي شرعت أميركا في تنفيذها، بعد نجاحها في فرض الهيْمنة الكاملة على قناة بنما، وقطع الطريق على الصّين بالسيطرة على المضيق الحيويّ، على الرَّغم من أنّ المقاربات بين القناتيْن تكاد تكون مستحيلة، فإذا كانت الأخيرة قد شيّدتها الولايات المتحدة في أوائل القرن العشرين، ثم تنازلت عنها لبنما عام 1977، على ما يعنيه ذلك لها من حقٍ في المطالبة بتسهيلاتٍ وامتيازاتٍ أكبر للعبور، تقف قناة السويس على طرف النّقيض، فقد بناها المصريون بسواعدهم، ودفعوا في سبيل ذلك أغلى الأثمان بدماء أكثر من مائة ألفٍ قضوا في عمليات الحفر، وهو رقمٌ ضخمٌ بالنظر إلى عدد السكان في ذلك الوقت، الذي لم يكن يتجاوز نحو أربعة ملايين نسمة، ما يجعل من الطلب الأميركي بالعبور المجّاني من القناة، أقرب ما يكون الى عملية قرْصنة جديدة للموارد المصرية، خصوصًا أن حركة مرور السفن والناقلات الأميركية في القناة، حسبما تشير الإحصاءات الرّسمية الصادرة عن إدارة الهيئة، تتراوح ما بين 10% و20% من حجم حركة السفن العابرة سنويًا، ولا تزيد رسوم العبور فيها على 700 ألف دولار لكلّ سفينة، وهو ما يجعل الطلب الأميركي يدخل في إطار التنمّر السياسي والتجاري، وفق ما يرى اللواء بخيت، على عددٍ من دول العالم، من أجل انتزاع الرئيس الأميركي أكبر قدرٍ ممكنٍ من التنازلات التي ترضي ميوله وصفقاته السياسية.
ينظر الكثير من الخبراء إلى الحضور العسكري الأميركي والغربي المُكثّف في البحار والمضائق الإقليمية، باعتباره البوّابة الملكيّة لعودة صدامٍ عنيفٍ بين الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها من جهة، والصّين وحلفائها من جهة أخرى، إذ تبدو الصين هي الهدف الرئيسي وراء عمليات العسْكرة الأميركية المُتنامية للبحر الاحمر، ويقول الدكتور أيمن سمير الخبير في العلاقات الدولية، إنّ الهدف الرئيسي وراء تلك العسكرة هو فرض الهيمنة الأميركية الكاملة على طرق نقل البضائع الصينية، وبخاصةٍ الطريق الرئيسي الذي تُمثّله قناة السويس ومضيق باب المندب، وهو الطريق الذي يحمل وحده نحو 60% من البضائع الصينية، إلى جانب قطع الطريق على بكين للاستفادة من النفط والغاز الروسي الرّخيص، عبْر الهيمنة الكاملة على الممرّات البحرية التي تنقل الطاقة الروسية إلى الصين، على نحوٍ يُمثّل ضربةً مزدوجةً لكلّ من موسكو وبكين في آن.
ويرى سمير أنّ تقويض مبادرة "الحزام والطريق"، وإجهاض أحلام العديد من البلدان العربية المرتبطة بها، تُعدّ أحد الأهداف الرئيسية وراء الوجود العسكري الكثيف لأميركا في البحر الأحمر، والذي تستهدف من خلاله في حقيقة الأمر، إطلاق رسائل واضحة لدول المنطقة، مفادها بأنّ واشنطن تظلّ هي الفاعل الرئيسي الأمني والاستراتيجي في الشرق الأوسط، وهو ما يتطلّب إعادة النظر من قبل الكثير من الدول العربية، قبل أن تقوم بتغيير تحالفاتها من الغرب إلى الشرق، وبصفةٍ خاصةٍ ناحية العملاق الصيني.
(خاص "عروبة 22")