وجهات نظر

أولوية تكريس "دولة المواطنين"

لئن تنوّعت تجارب التحديث العربية على مستوى المرجعيات الأيديولوجية والثقافية بين خيارات ليبرالية وخيارات اشتراكية، أو حتّى من خلال محاولة المراوحة بينهما داخل البلد العربي الواحد، مثلما حصل في تونس زمن الرئيس الحبيب بورقيبة (1957-1987)، فإنّ تلك التجارب لم تُفضِ إلى تحقيق النتائج المرجوة والرهانات المأمولة. وهو ما يتجلّى بوضوح في هشاشة استقرار المجتمعات العربية وتحوّل تجارب انتقالها الديمقراطي إلى شكل من أشكال "التدمير الذاتي" مثلما تجلّى ذلك بوضوح عقب الحراك السياسي والاجتماعي الذي شهدته بعض الدول العربية بداية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين.

أولوية تكريس

بقدر ما كانت الشعارات التي رُفعت خلال ذلك المنعطف الحاسم من تاريخ العالم العربي تؤشّر بوضوح على اكتمال الوعي بضرورة تكريس دولة المواطنين، فإنّ تطوّرات الأحداث ومجرياتها بدت معاكسة تمامًا لتلك التطلّعات والآمال، لا سيما حينما استلمت النخب السياسية مقاليد الحكم، وباشرت عملية التأسيس الديمقراطي على أعقاب أنظمة شمولية. إذ تحوّلت تجارب الانتقال الديمقراطي إلى صراع أيديولوجي هويّاتي موهوم بلا برامج وآفاق مأمونة.

ولئن كان من اليسير تفسير تلك المفارقة بين مطالب الجماهير الواعدة وقصور النخب السياسية في ضوء معطيات أيديولوجية، فإنّه مما لا شكّ فيه أنّ المسألة أعمق من ربطها بذلك التصوّر التبسيطي. إذ تعود إلى عوامل بنيوية عميقة وهيكلية راسخة الجذور، لعلّ من أهمّها فشل الدولة الوطنية في بناء مواطنة حقيقية تجعل من الالتزام بالواجبات والمطالبة بالحقوق واحترام القانون سمات عامة للشخصية القاعدية، ومن ثمّة فهي لا تحتاج إلى قوة السلطة لتنفيذها وتطبيقها على الجميع.

العدالة الاجتماعية قضية مصيرية لاستقرار الدول العربية وتماسك مجتمعاتها

ولعلّ هذا ما يفسّر أنّ الفاعلين السياسيين أعادوا إنتاج أشكال رثّة من البنية السلطوية القديمة لأنّهم هم أنفسهم لم يكونوا في حقيقتهم إلّا نتاجًا لعقل سياسي عربي مأزوم تتحكّم فيه وتوجّهه ثلاثية "القبيلة والعصبية والغنيمة"، مثلما أشار إلى ذلك الجابري منذ عقود، وما زال هذا التوصيف يحتفظ براهنيته إلى اليوم رغم الهالة الكبيرة والعناوين البرّاقة التي رافقت تجارب الانتقال الديمقراطي وتداعياته المتسارعة.

وإذا كان السياق لا يتّسع لتعداد أشكال غياب المواطنة الحقيقية بالعالم العربي، فإنّه من الممكن الإشارة بإيجاز إلى أنّ تصاعد التحيّزات الفئوية على أساس عشائري أو جهوي أو قطاعي أو مذهبي أو عرقي بقوّة منذ الاحتلال الأمريكي للعراق سنة 2003، وتداعيات الحراك السياسي والاجتماعي بعد كانون الثاني/ يناير 2011، ليست إلاّ مؤشّرات لفشل الدولة الوطنية على اختلاف مناويلها الاقتصادية ومرجعياتها الأيديولوجية وأنظمة حكمها في بناء مواطن صالح ضمن علاقة تعاقدية بين أفراد المجتمعات العربية والسلطة القائمة أو بين الذات والآخر.

وتُعدّ في هذا الصدد العدالة الاجتماعية قضية حيوية بل مصيرية لاستقرار الدول العربية وتماسك مجتمعاتها، رغم العوامل المتشابكة التي تعيق تحقيقها بحكم ثقل الماضي الاستعماري ودور "البُنى العميقة" بتلك الدول التي تربطها علاقات بنيوية بدوائر صنع القرار الدولي. ومن ثمّة فهي نخب وظيفية تسعى إلى تأبيد الأوضاع القائمة وإعادة إنتاجها حفاظًا على مكانتها ومغانمها الفئوية ومصالح القوى الخارجية المرتبطة بها.

يكتسب الحديث عن تكريس دولة المواطنين في مجرى التحوّلات السوسيوثقافية بالعالم العربي مشروعيته من أمرين متقاطعين في ما بينهما: يهمّ الأمر الأوّل تزايد تدخّل القوى الدولية في شؤون الدول العربية بالاعتماد على استراتيجيا جديدة في الهيمنة ممثّلة في القوة الناعمة بدل القوة الصلبة (التدخّل العسكري المباشر)، وذلك باستثمار المسائل الثقافية في الدول التي لم تنجح في صياغة سياسات التعدّدية الثقافية والتنوّع الثقافي وابتزازها واستنزافها.

يستحيل الحديث عن حداثة أو ديمقراطية أو مواطنة في ظلّ ثقافة راكدة

كما تعتمد من جهة أخرى ما يُعرف بالجمعيات والهيئات الناشطة ضمن المجتمع المدني (أو العمل الأهلي) آليات لإحكام السيطرة وتوجيه الرأي العام بفضل التمويلات المالية الضخمة، وما أتاحته الثورة المعلوماتية والاتصالية من شبكات تواصل اجتماعي وتدفّق معلوماتي سريع. وهو ما وفّر "سوقًا" واسعةً للتلاعب بالعقول والمعطيات الشخصية.

أمّا الأمر الثاني فيتّصل بصيرورة مفهوم المواطنة وتحوّلاته. ولئن أنكر عديد الباحثين الغربيين والعرب، وفي مقدّمتهم برنارد لويس، وجود مفهوم المواطنة في الحضارة الإسلامية، فإنّ التحوّلات التي شهدها هذا المفهوم ــ الذي كان يقتصر في محضنه اليوناني الأصلي على اليونانيين ويستثني العبيد والنساء من حقوق المواطنة ثم تحوّل في الفلسفة السياسية الغربية الحديثة إلى مفهوم يلغي التفاوت بين البشر ضمن ما عبّر عنه كانط بالسلام الدائم والمواطنة الكونية ــ فإنّه يفتح آفاقًا ممكنة لتبيئة ذلك المفهوم في الحضارة العربية المعاصرة بصفته خيارًا استراتيجيًا لا مفرّ منه لبناء دولة القوانين والمؤسّسات والمساواة بين جميع المواطنين.

بيد أنّ مفهوم المواطنة يحتاج لتكريسه في المجال التداولي العربي الإسلامي إلى مباشرة عملية تصحيح ذاتي عميقة طويلة النفس تشمل مستويي الفكر والممارسة في آن معًا، إذ يستحيل الحديث عن حداثة أو ديمقراطية أو مواطنة في ظلّ ثقافة راكدة لم تستفد من مراجعة التراكم المعرفي الحاصل في الحقبة الحديثة والمعاصرة في تصحيح أخطائها والتخلّص من عوامل الشدّ إلى الوراء. كما تبدو الحاجة إلى مشروع وطني جامع أمرًا ضروريًا لاعتماده قاطرة أساسية ضمن تمشيّات تدرّجية مقنّنة. فمن باب إهدار الفرص التاريخية وتبديد الجهد والطاقات استمرار الجدل حول سياسات وتوجّهات قد تبيّن فشلها الذريع بحكم افتقادها لدعائم واقعية وعملية متينة.

تكريس دولة المواطنين أولوية قصوى للتحصين الذاتي ومجابهة المستجدّات المتسارعة

يُشكّل تغيير البُني الذهنية والاجتماعية البالية الموروثة عن دولة الأحكام السلطانية ودولة التنظيمات بوابة مهمّة للولوج إلى عالم المواطنة الفسيح. ويُعدّ في هذا المضمار تجاوز المنزلة الدونية للمرأة التي تعيشها المرأة في عديد المجتمعات العربية من شروط تغيير تلك البنى المتكلّسة.

نرى أنّ تكريس دولة المواطنين أولوية قصوى للتحصين الذاتي ومجابهة المستجدّات المتسارعة التي من ضمنها الهجرة النظامية وغير النظامية، إذ نجاح عديد الكفاءات العربية وتميّزها في بلدان الإقامة يُفنّد التفسيرات الثقافوية التي تربط التخلّف العربي بطبيعة جنسية أو دينية، وهو ما قد يشجّعها على العودة والاستثمار في أوطانها الأصلية. كما يمكن من جهة أخرى تنظيم شؤون المهاجرين القادمين من جنوب الصحراء وغيرها والاستفادة منهم في بعض القطاعات التي ينفر منها الشباب العربي إذا توفّرت في أولئك المهاجرين الشروط القانونية والكفاءة المطلوبة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن