لكنّ العودة، التي ظنّها السوريون العائدون نهاية الرحلة، تحوّلت إلى فصلٍ جديدٍ من المعاناة، بدأت من لحظة التحضير لها، مرورًا بالحدود، وانتهاءً بالتصادم مع بلدٍ تغيّر أكثر ممّا توقّعوه.
يُكمل "ع.د" سرد ما مرّ به ويقول لـ"عروبة 22": "قررتُ زيارة سوريا في أوّل يوم من عيد الفطر وهو أوّل عيد بعد فرار الديكتاتور، حزمتُ حقائبي مُمَنِّيًا النفس بزيارة قبر أمي مباشرةً بعد دخولي من منفذ جابر نصيب الحدودي، كما هي عادة أهل الشّام في صباح العيد، عبرت الحدود الأردنية بسلام وفرحتي تزداد كلّما اقتربت من الحدود السورية، فهذه هي أوّل مرة في حياتي منذ أن وُلدتُ سأرى بلدي من دون الأسد".
ويضيف: "دخلتُ نقطة الجوازات السورية وكانت موسيقى أغنية "إرفع راسك فوق" تصدح في المكان، وقفت على النافذة ووجهي ضاحك، أريد أن أرى أوّل موظفٍ حكوميّ سوري حرّ يختم جوازي ويقول لي أهلًا وسهلًا بك في بلدك.. فكانت الصدمة إذ تناول جواز السفر وبدأ الضرب على لوحة مفاتيح الكومبيوتر أمامه لينقلب وجهه ويقول لي إنْ دخلت فلن تخرج فأنت موظّف لدى الدولة كما يُبيّن نظام المعلومات، في هذه اللحظة بالذات، سكن كلّ شيء حولي حاولتُ التقاط أنفاسي لأقول له ألّا يختم الجواز لكنه نظر إليّ وختم الجواز وقال أدخل الى سوريا وحلّ الموضوع ليس بتلك الصعوبة فقط اذهب إلى مكان عملك واطلب ورقة "لا مانع" من خروجك من البلد".
ويتابع: "دخلتُ سوريا وزرتُ قبر أمي وأبي، أمضيتُ عطلة العيد وفي أوّل يوم دوام عمل كنتُ في الصباح الباكر عند إدارة الهجرة والجوازات لأسأل عن طبيعة الورقة التي يريدون وقد طلبوا مني ورقتيْن الأولى أنّي بحكم المستقيل، والثانية براءة ذمة، ذهبتُ الى عملي القديم لأتفاجأ بأنّهم يقومون بنقل الأضابير والوثائق من مكانٍ إلى مكانٍ آخر، وعليه فإنّ إصدار براءة ذمّةٍ يوجب البحث بين أكوامٍ من الأضابير، وهذا يستغرق وقتًا طويلًا وأنا لا أستطيع الانتظار فموعد السفر اقترب لكنّ الأصدقاء القدامى استطاعوا مساعدتي باستخراج ورقة بحكم المستقيل فقط.
عدتُ إلى إدارة الهجرة والجوازات لأُقدّم الورقة لكن كالعادة الورقة كانت غير كافية، وطالبني بأن آتي ببراءة ذمّة، فسألتُه لماذا تريدون مني براءة الذمّة؟ وأنا الذي تركت عملي لأني لا أريد ان أكون مع النّظام الوحشي وأخدمه في صناعة الكذب والنفاق، انا الذي تركت أمّي التي توفيت ولم أستطع أن أراها عند الوفاة لأنّي في بلاد اللجوء، أنا الذي لو بقيت في عملي تحت حكم الطاغية لكانوا سحبوني ظلمًا للاحتياط العسكري بالإجبار. هل أنا من عليّ أن أحضر براءة الذمة؟! وما هي حال من بقي وأعان النظام وكان من أشدّ المدافعين عنه، لا بل ربّما ارتكب الجرائم بحقّ الأحرار، أنا الذي حلمتُ بالحرية مُحاصر... عندها أسكتني ذلك الرجل وقال لي تعال غدًا وخذْ ورقتك وهو ما فعلتُه ورحلت مباشرة".
ليس "ع.د" وحده، بل كثيرون ممّن قرّروا خوض هذه التجربة وجدوا أنفسهم أمام واقع صعب يُنهك القلب قبل الجسد ويغتال الحنين بأسئلةٍ لا أجوبة لها.
كمال ابراهيم، الذي قدم من السويد لزيارة والدته المريضة في حمص، واجه طريقًا طويلًا من العبور والمعاناة، تسع ساعاتٍ بين بيروت وحمص، لكنّه لم يتوقف عند المشقّة اللوجستية فقط، بل وصف وجعًا أعمق: "الناس محطّمون، يبحثون عن أبسط مقوّمات الحياة من دون جدوى، وكأنّ الوطن تحوّل إلى مساحة انتظار لا نهاية لها." وتغريد، التي عادت من فرنسا إلى حلب قالت أيضًا بكثير من الحزن: "ليست حلب التي أعرفها ولا حلب التي حلمتُ بالعودة إليها، زرتُ قبور أحبتي وعُدت".
على الرَّغم من اختلاف المُدن التي عادوا إليها، يُجمع هؤلاء على مشاعر متشابهةٍ: صدمة، خيبة، وشعور بالغربة في أرض الوطن. كان الأمل أن تحملَ عودتهم معنى البداية، لكنّها كشفت عن واقعٍ لا يزال عالقًا بين أنقاض الحرب وتشتّت المستقبل.
وفي شهاداتٍ متكرّرةٍ، وصف السوريون الذين عادوا من دول الجوار كم كانت الرحلة نفسها نحو الوطن مليئةً بالتعقيدات. في لبنان، على سبيل المثال، واجه العائدون تضييقًا أمنيًا، خصوصًا أولئك الذين سجّلوا أسماءهم في "لوائح العوْدة الطوعية". يقول محمود أبو الجود، وهو أب لخمسة أطفال كان يقيم في البقاع اللبناني: "أُجبرنا على توقيع أوراق لا نعرف فحواها عند الحدود، سألوني إنْ كنتُ شاركتُ في احتجاجات، وهدّدوني إن عدتُ مرةً أخرى إلى لبنان بأن يُمنع دخولي نهائيًا".
أرض غريبة تحت سماء الوطن
لكنّ الأصعب كان بانتظارهم داخل سوريا. العائدون، ومعظمهم من دول أوروبية أو عربية، وجدوا أنفسهم أمام مشهدٍ يكاد لا يمتّ بصلةٍ للصورة التي حملوها في الذاكرة. الشوارع ذاتُها، لكنها الآن أكثر اتّساخًا وخرابًا. الوجوه مألوفة، لكن النظرات غريبة، متوجّسة، مطحونة، بائسة وحزينة. لم يترك النّظام الساقط البلاد إلّا خرابًا متجسّدًا لمقولته الأولى "الأسد أو نحرق البلد".
العودة لم تكن جسديةً فقط، بل امتحانًا للانتماء، كثيرون تحدّثوا عن شعورٍ بالاغتراب في مدنهم الأصلية، ومسقط رأسهم. انقطعت الروابط الاجتماعية، تفكّكت العائلات، وتغيّرت الطباع العامة.
مَن بقي في الداخل يعيش بمنطق البقاء على قيد الحياة، ومن عاد من الخارج يعيش تحت وطأة الشعور بالذنب أو العجز.
أغلب العائدين وجدوا صعوبةً في التأقلم مع الظروف المعيشيّة، الكهرباء مقطوعة معظم الوقت، الماء غير صالحة للشرب، الخدمات الصحيّة متدهورة، والأسواق غارقة في الغلاء والتضخّم، حتّى من حاول بدء مشاريع صغيرة واجه عراقيل بيروقراطية وأمنية، لا تُعدّ ولا مجال للحديث عنها الآن.
سوريا التي عاد إليها هؤلاء ليست سوريا التي غادروها، ولا تلك التي حلموا بالرّجوع إليها، النّظام سقط، لكنّ ملامح الدولة لا تزال مفقودة، والحياة اليومية محكومة بالفوضى والتشتّت والخوف من المجهول.
هل كانت العودة خطأ؟ البعض يقول نعم، والبعض الآخر لا يملك خيارًا آخر. لكن ما يجمعهم جميعًا هو أنّ العودة، في ظلّ الظروف الراهنة، لم تكن نهاية المنفى!.
(خاص "عروبة 22")