قلنا إن أطراف حرب غزة باتوا في الأسابيع الأخيرة، يعيدون إنتاج أنفسهم عملياتيا بالشكل نفسه تقريبًا، من دون إحداث أي تغيير استراتيجي، أو تغيير لقواعد اللعبة. ومن ثم فإنها أصبحت تدور حول نفسها في حلقة مفرغة، داخل ما سميناه "مصيدة اللاحسم". هذا الوضع يمكن أن يستمر لأسابيع، أو ربما لسنوات، حتى يتمكن أحد الأطراف من تغيير قواعد اللعبة، أو إحداث تغيير استراتيجي، يؤدي إلى إطلاق خيارات جديدة.
وقد شهدنا مثالا شبيها بذلك في استمرار حالة "اللاحرب واللاسلم" بين مصر وإسرائيل، في الفترة ما بين حرب الاستنزاف (1969) وحرب أكتوبر (1973). ومع أن إسرائيل تستعد لعملية عسكرية جديدة واسعة النطاق، فإن المقاومة أثبتت قدرتها على التكيف مع استئناف العمليات العسكرية الإسرائيلية منذ 18 مارس الماضي، واستطاعت منذ بداية الشهر الحالي إيقاع قتيل عسكري إسرائيلي في المتوسط يوميا وما يقرب من ثلاثة أمثال ذلك من الجرحى. كما أنها تدير حربا نفسية ناجحة ضد عدوها داخل المجتمع الإسرائيلي.
المتغير الجديد الذي قد يترك بصمته على الحرب هو عودة الدور الأمريكي في ثلاثة مجالات، مترافقا مع زيارة ترامب للمنطقة. الأول هو اتفاق الولايات المتحدة مع حماس على إطلاق سراح المحتجز الأمريكي – الإسرائيلي عيدان ألكسندر، مع استمرار المفاوضات لاستعادة جثث أربعة أمريكيين – إسرائيليين تحتفظ بها المقاومة. المجال الثاني هو أن المبعوث الأمريكي ستيف ويتكوف يعمل على استئناف مفاوضات وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى والمحتجزين بمشاركة مصر وقطر.
أما المجال الثالث فهو الاستعداد لتنفيذ خطة لإدخال وتوزيع المساعدات الإنسانية، عرضها مايك هاكابي السفير الأمريكي لدى إسرائيل، مؤكدا أنها خطة "أمريكية وليست إسرائيلية"، وأن إسرائيل لن تشارك في توزيع، أو نقل الغذاء، بل ستتولى تأمين المنطقة الواقعة خارج مراكز توزيع المساعدات، وأن شركات أمنية خاصة ستكون مسؤولة عن سلامة العاملين وتوزيع الغذاء، مؤكدا أن "الرئيس ترامب يريد توزيع الطعام في غزة بأمان وكفاءة". وقد أكد جدعون ساعر وزير الخارجية الإسرائيلي يوم الأحد الماضي أن "إسرائيل تؤيد تماما خطة إدارة ترامب"، لكنه ألمح إلى ضرورة "منع حماس من الاستيلاء عليها".
ومع ذلك فإن المكونات الرئيسية لتلك الخطة تتطابق مع مشروع أعده مكتب تنسيق الأنشطة الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، الذي يقوده الجنرال غسان عليان. وطبقا للخطوط الرئيسية للمشروع تنشأ هيئة جديدة تسمى "مؤسسة غزة للمساعدات الإنسانية"، يتبعها صندوق للتمويل، وأجهزة لإدارة أعمال تجميع وتخزين وتوزيع المساعدات داخل "مراكز مؤمَنة". ومن المرجح أن يكون "مركز التوزيع المؤمن" بمثابة "فلتر" يمنع دخول أعضاء "حماس" ومؤيديها ويحرمهم من الحصول على المساعدات. الخطة في جوهرها تحقق هدف إسرائيل في إنهاء دور الأونروا تماما في غزة، ومنع وجود أي دور لحماس، على اعتبار أن مثل هذا الدور يمنحها قوة بين الفلسطينيين.
ولا تزال تفاصيل كثيرة غائبة، أو غير محددة، تتعلق بتمويل صندوق الإغاثة التابع للمؤسسة، وكيفية اختيار العاملين في التوزيع، سواء بواسطة جمعيات أهلية فلسطينية أو من خارجها، وما إذا كانت السلطة الفلسطينية أو الدول العربية ستلعب دورا في إدارة المساعدات. هذه التفاصيل، والشيطان يسكن دائما في التفاصيل، هي التي ستحدد في نهاية الأمر مخرجات الخطة ومدى نجاحها، خصوصا أن القوات الأمريكية فشلت من قبل في إنشاء آلية لتوزيع المساعدات عن طريق خط إمدادات بحري ورصيف عائم لاستقبال السفن في أشدود ومخازن للتوزيع. ويتطلب توزيع المساعدات قدرا كافيا من التأمين من الداخل والخارج، ما قد يفتح الباب لحدوث ازدواجية بين دور الشركات الأمنية الخاصة، ودور الجيش والأجهزة الأمنية. ويمثل إعلان إسرائيل التزامها "التعاون التام" مع الخطة رغم استبعادها من التوزيع، محاولة لتجنب أي خلاف علني مع الولايات المتحدة بشأن دورها في غزة.
خطة المساعدات الإنسانية توفر للجيش الإسرائيلي دورا مركزيا في إنشاء وتأمين مراكز التوزيع، لكنها في الوقت نفسه توفر قناة لإنهاء حرب قتل الفلسطينيين بسلاح التجويع، حيث إن العالم يعترف الآن بأن غزة تعاني من مجاعة حقيقية، ومن انهيار شامل لمنظومات العلاج والإسكان والمرافق وغيرها، لذلك فإن من واجب المقاومة والسلطة الوطنية والدول العربية المعنية بالوضع في غزة، استثمار زيارة ترامب للمنطقة، في وضع إطار لحل ثلاث إشكاليات تتعلق بالخطة.
الإشكالية الأولى ضرورة وضع خريطة تحدد انتشار الجيش الإسرائيلي، وتبين دوره في تأمين مراكز التوزيع من الخارج، خصوصا أن القوات الإسرائيلية اعتدت من قبل على الأهالي وعلى العاملين في منظمات الإغاثة الإنسانية، بما فيها منظمة "المطبخ العالمي" الأمريكية. الإشكالية الثانية هي ضمان فتح جميع المعابر وسلامة العاملين فيها، للمساعدة على عبور المساعدات الإنسانية إلى مراكز التخزين والتوزيع، بما فيها معبر رفح. الإشكالية الثالثة هي تشكيل صندوق التمويل بالطريقة التي تضمن استقلاله في اتخاذ القرارات، وإدارة التمويل وتوجيه الموارد إلى الأغراض التي تحقق غايات تقديم المساعدات.
ونحن نعتقد أن الاتفاق مع إدارة ترامب على إطار محدد لحل هذه الإشكاليات الثلاثة يعتبر من أهم ما يمكن أن تنتجه الزيارة بالنسبة للوضع في غزة، لاعتبارين؛ الأول أن الإغاثة الإنسانية تتقدم لدى إدارة ترامب على اعتبارات وقف القتال من حيث التوقيت. والثاني أن وقف القتال يحتاج إلى مفاوضات، أكثر تعقيدا، مع إسرائيل. المهمة العاجلة حاليا هي توصيل الطعام لكل جائع، وتوفير الدواء لكل مريض أو مصاب، وإقامة سقف آمن يستظل به كل فلسطيني في غزة.
أما الإفراط في التفاؤل بشأن اعتراف أمريكا بدولة فلسطينية، أو حتى التوصل سريعا إلى اتفاق مؤقت لوقف إطلاق النار، فإنه يندرج في إطار التمنيات، إلى حين تتفق إدارة ترامب مع الحكومة الإسرائيلية على إعادة تعريف الأهداف الاستراتيجية لكل منهما في غزة وكيفية تحقيقها. فنحن لا نعرف على وجه التحديد مصير حلم ترامب بشأن تحويل غزة إلى "ريفييرا الشرق الأوسط"، ولا عن مصير رغبة الحكومة الإسرائيلية في استئناف الاستيطان هناك. ومن ثم فإننا نتوقع بقاء الوضع في غزة داخل "مصيدة اللاحسم" إلى حين.
أهداف زيارة ترامب الحالية للخليج تتصدرها "المصلحة الأمريكية" أولا وقبل كل شيء. وقد سبقتها ثلاثة تطورات مهمة، آخرها الاتفاق مع "حماس" على إطلاق سراح عيدان ألكسندر، وسبقها اتفاق أمريكي مع حكومة أنصار الله في اليمن على وقف العمليات العسكرية بين الطرفين، وعدم استهداف السفن الأمريكية. أما التطور الأول فكان اتفاق المفاوضات مع إيران بشأن برنامجها النووي. الاتفاقات الثلاثة تخص حماية المصالح الأمريكية، ولم تشاور فيها واشنطن تل أبيب، وإنما أبلغتها.
هذا النهج الأمريكي يحتفظ للولايات المتحدة بحرية اتخاذ القرارات بشأن مصالحها الخاصة، من دون إلزام إسرائيل باتباع الطريق نفسه. ومن الواضح أن الرئيس الأمريكي يفضل حاليا نهج الحوار السياسي مع أطراف اللعبة في الشرق الأوسط، في حين تفضل إسرائيل نهج القوة العسكرية. ويجب نشير إلى أن اختلاف النهجين لا يعني اختلافا جوهريا في تعريف، أو تحديد المصالح المشتركة لهما، بقدر ما يعني أن الولايات المتحدة تتبع استراتيجية سياسية أطول أمدا وأقل تكلفة، مع اتفاقهما على أهداف استراتيجية إقليمية، مثل حرمان إيران من امتلاك سلاح نووي، وتحييد دورها الإقليمي وإزالة أي تهديد وجودي لأمن إسرائيل.
الولايات المتحدة لها مصالحها الاستراتيجية الخاصة في المنطقة، دفاعيا واقتصاديا ودبلوماسيا، وهو ما يطمح ترامب أن يحقق الكثير منها في زيارته الحالية. أكثر ما يهم ترامب في هذه الزيارة هو الحصول على تريليونات الدولارات من الصفقات التي سيوقعها في مجالات التسلح والدفاع والطاقة والاستثمار والتعاون التكنولوجي أو النووي مع السعودية والإمارات وقطر. في النهاية يريد ترامب أن يعود إلى واشنطن وقد حقق للخزانة الأمريكية دخلا إضافيا، يساعده على تخفيض الضرائب الذي وعد به الناخبين، وأن يضمن لشركات السلاح الأمريكية وغيرها من الشركات عقودا تعزز التشغيل وفرص العمل، وتحقيق أرباح طائلة حتى ما بعد فترة ولايته، وأن يضمن استمرار تيار "لنجعل أمريكا عظيمة من جديد".
أما المسائل المتعلقة بالتطبيع بين السعودية وإسرائيل، والاتفاق النووي الإيراني، ومستقبل الوضع في غزة فسوف تحتاج إلى مزيد من الوقت والمجهود والدراسة. وربما تكون هناك رؤية مستقبلية لغزة يغذيها اعتقاد بأن تغليب الحلول الإنسانية سيؤدي إلى التقليل من أهمية الحلول العسكرية، وأن صعوبة إيجاد بديل لحماس، يمكن التغلب عليها بتعيين حاكم مدني أمريكي، على غرار ما حدث في العراق بعد إسقاط صدام.
(القدس العربي)