حول الاتفاق الأميركي – الحوثي!

لم يأخذ الاتفاق الذي توصّل إليه كلٌّ من الولايات المتحدة وجماعة الحوثيين في اليمن حقّه من الاهتمام الكافي بما يتناسب مع دلالاته العميقة. هذا الاتفاق الذي تمّ بوساطةٍ عُمانية يقضي بعدم استهداف الحوثيين السفن الأميركية في البحر الأحمر مقابل توقّف الهجمات الجوّية الأميركية على المواقع والمنشآت الحيوية اليمنية، وبالتالي بعد أن كان قد ساد لغط حول ما إذا كان الاتفاق يشمل أيضًا السفن الإسرائيلية أم لا يشملها، أكّد الحوثيون على ألسنة العديد من مسؤوليهم أنّ الاتفاق يخصّ السفن الأميركية بشكلٍ حصريّ، وأنّ الهجمات على السفن الإسرائيلية مستمرّة طالما استمر العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة، وأتبعوا القول بالفعل.

حول الاتفاق الأميركي – الحوثي!

في التحليل الأوّلي لهذا الاتفاق يمكن القول إنّ طرفيْه كانا في حاجةٍ إلى التوصّل إليه، فالضربات الأميركية المستمرّة ضدّ الحوثيين منذ منتصف شهر مارس/آذار الماضي كانت شديدة القوة وخلفّت وراءها خسائر جسيمةً بشريًا وماديًا، ولقد أكّد الرئيس الأميركي على هذه النقطة بالتحديد في مؤتمره الصحافي وأردف ذلك بالإشادة بقدرة الحوثيين على تحمّل شدّة القصف الأميركي، وبالتّالي فمع أنّه لم يكن متوقعًا أن تقضي الضربات الأميركية على جماعة الحوثي إلا أنّها بالتأكيد كانت سوف تُحجّم قدراتها العسكرية.

من جهةٍ أخرى، وجدَت الإدارة الأميركية في الاتفاق مع الحوثيين مخرجًا لها من المستنقع اليمني الذي من غير المعروف متى يمكنها الخروج منه، وإذا كان هناك ثمّة تفكير داخل هذه الإدارة في الانسحاب من سوريا التي تتمركز على أرضها منذ بضع سنوات، فمن باب أوْلى ألّا تفتح على نفسها جبهةً جديدةً بلا أفق منظور.

يمكن لآثار الاتفاق الأميركي - الحوثي أن تتضّح أكثر عندما نقارن مخرجاته مع مخرجات المفاوضات الأميركية - الإيرانية

ويعزّز هذا التقدير من جانب دونالد ترامب عاملان آخران، الأوّل هو أنّ الإدارة الأميركية، أو دعنا حتّى نوسِّع الدائرة أكثر ونقول الإدارة الغربية، غير راغبة في القضاء بشكلٍ مبرمٍ على جماعة الحوثيين. ولعلّنا نذكر كيف ظلّت القرارات الدولية تنحاز إلى قوى الشرعية اليمنية المدعومة عربيًا، حتى بدأ يُرسّخ الحوثيون أقدامهم على الأرض فما أن تقدّمت القوات اليمنية المدعومة إماراتيًا صوب ميناء الحديدة بعد أن كانت قد تمكّنت من تحرير منطقة جنوب الحديدة، حتى طرحَت بريطانيا على مجلس الأمن مشروع قرار يقضي بوقف إطلاق النار. وهكذا صار الحوثيون شركاء على قدم المساواة مع قوى الشرعيّة في كلّ جولات التفاوض بوصفهم سلطة أمر واقع. بقولٍ آخر، فإنّ الإبقاء على مستوى متوسطٍ من التهديدات الحوثية (وبالتالي الإيرانية) أمر مطلوب لأسبابٍ مختلفة. أمّا العامل الآخر فإنه يتمثّل في ما بدا واضحًا من رفض دول الخليج المشاركة في أي تحالف عسكري دولي ضدّ الحوثيين، فمن المعروف أنّ أيًا من دول الخليج، عدا البحرين، لم يشارك في تحالف "حارس الازدهار" لتأمين الملاحة في البحر الأحمر، ومؤدّى هذا الموقف أن تتحمّل الولايات المتحدّة وحلفاؤها الغربيون العبء كاملًا.

هذا إذن ما يمكن أن نصل إليه من خلال التحليل الأوّلي لآثار الاتفاق، وهو أنّ الطرفيْن الأساسييْن مستفيدان من إبرامه لأسبابٍ مختلفة. لكن للاتفاق آثارًا أخرى أهم، ويمكن لهذه الآثار أن تتضّح أكثر عندما نقارن مخرجاته مع المخرجات المتوقّعة من المفاوضات الأميركية - الإيرانية غير المباشرة حول البرنامج النووي الإيراني. إذ تشترك الولايات المتحدّة وإسرائيل في هدفٍ أساسيّ هو منع إيران من تصنيع سلاح نووي، وتختلفان حول أسلوب تحقيق هذا الهدف المشترك.

تعتمد الولايات المتحدّة أسلوب "العصا والجزرة"، من خلال تفضيل الحل الديبلوماسي للمسألة النووية كخيارٍ أول مع التهديد من وقت لآخر باستخدام القوة الخشنة في حال تعثّرت المفاوضات مع إيران. أمّا إسرائيل فلا تُمسك إلا بـ"العصا" الغليظة التي تُهدّد بها منشآت إيران النووية ونظام الحُكْم الديني القائم في إيران. المهم في هذه النقطة هو أنّ تلاقي الموقفيْن الأميركي والإسرائيلي حول خطورة تحوّل إيران إلى دولةٍ نوويةٍ أمر من شأنه أن يحافظ على أمن إسرائيل، وهذا غير متحقّق في حالة الاتفاق الأميركي – الحوثي.

خروج الولايات المتحدة من المعادلة سوف يحدّ من قدرة إسرائيل على إضعاف جماعة الحوثي

تبدو الولايات المتحدّة من خلال الاتفاق الأخير وقد نجت بنفسها وتركت إسرائيل تُصارع وحدها التهديدات الحوثية لسفنها. ومن هنا أتت الصدمة الإسرائيلية التالية على الإعلان عن الاتفاق، وتأكيد بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه يسرائيل كاتس على أنّ إسرائيل ستدافع عن نفسِها وستواصل قصف الحوثيين، وهو ما ردّ عليه مايك هاكابي، السفير الأميركي لدى إسرائيل، وأحد أشّد المدافعين عنها بقوله إنّ الولايات المتحدّة غير مُلزمةٍ بالحصول على إذنٍ من إسرائيل قبل الاتفاق مع الحوثيين.

هذا التطوّر المهم في العلاقات الأميركية - الإسرائيلية يجب وضعه في إطاره الصحيح، مِن حيث إنّه تطوّر نوعي غير مسبوق بما يتضمّنه من تخّلٍ عن إسرائيل في قضيّة الحوثيين، وهو بالفعل كذلك. لكن في الوقت الذي لا يمكن فيه تحميل الخلاف الأميركي - الإسرائيلي في هذه القضية أكثر ممّا يحتمل واعتباره تمهيدًا لمرحلةٍ جديدةٍ في العلاقات بين الدولتيْن، فإنّه بالمثل لا يجوز التقليل من أهمّيته والذهاب إلى أنّه نوع من توزيع الأدوار لا أكثر ولا أقلّ. فمن المؤكّد أنّ إسرائيل راغبة في قطع "أذرع" إيران في المنطقة، وكما هي تتحرّك ضدّ "حزب الله" في إيران فإنّها تتحرك أيضًا ضد الحوثيين في اليمن، لكن خروج الولايات المتحدة من المعادلة سوف يحدّ من قدرتها على إضعاف جماعة الحوثي.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن