على الرغم من التغيير الذي طرأ على موازين القوى في الشرق الأوسط، إلا انها لا تزال منطقة تضج بالأحداث الامنية والصراعات المحورية التي تقوض الاستقرار وارساء الهدوء. فالاعتداءات الاسرائيلية الآخذة بالتوسع سواء في لبنان عبر التعدي اليومي على اتفاق وقف النار، كذلك في سوريا التي شهدت في الأسابيع الماضية على تدخل تل أبيب السافر في شؤونها الداخلية لإثارة القلاقل بما أثار مخاوف حقيقية من وقوع دمشق في الفوضى والتقسيم. أما غزة فوضعها يزداد صعوبة يومًا بعد يوم بظل غياب اي معطيات حول تقدم ملموس بالمفاوضات التي يعرقلها رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو تحقيقًا لمآرب شخصية ومكاسب سياسية.
هذه الأوضاع يُضاف اليها ما يجري في اليمن، السودان، الصومال وليبيا، يُنذر بالمزيد من الصراعات الدموية والاقتتال الاهلي الذي تستفيد منه عدة دول لتوزيع "الجبنة" الموجودة ولو على حساب الشعوب التواقة الى بناء بلدانها بعيدًا عن لغة الحروب والدم. وازاء ما تقدم جاءت الزيارة الخليجية للرئيس الاميركي دونالد ترامب، الذي يعمل على تكريس تحالفات جديدة قوامها الاقتصاد والاستثمارات وابرام الاتفاقيات والصفقات حتى مع "ألد الأعداء" كما هو الحال بالنسبة الى المفاوضات الجارية مع ايران بشأن ملفها النووي الى جانب استخدام نفوذه ومكانته لدعوة الدول للحق بركب التطبيع.
هذا وتجاوز ترامب في ولايته الثانية التحالفات التقليدية معتمدًا مقاربات مختلفة شملت الخصوم والحلفاء على حد سواء ما أثار العديد من التساؤلات حول الدور المستجد للولايات المتحدة بوصفها قوة عظمى لما لها من قدرة على التأثير في كافة الاحداث. وانطلاقًا من كل ما تقدم، يمكن وصف زيارة ترامب الى العواصم الخليجية بـ"المفصلية" لأنها كرست نهجًا جديدًا وأرست تفاهمات عملية يُمكن ان يُبنى عليها في المستقبل لتعزيز الشراكات والتعاون في مختلف المجالات. هذا دون ان ننسى الدور المحوري الذي تضطلع به السعودية وقطر والامارات في الملفات الشائكة ولعبها دور الوسيط في كثير من الاحيان. فالرياض مثلًا احتضنت القمة الاميركية الروسية بشأن انهاء حرب أوكرانيا، والدوحة تقود جهودًا دؤوبة لانهاء حرب غزة والامارات نجحت في اكثر من مرة باطلاق سراح رهائن بين كييف وموسكو.
في غضون ذلك، اختتم ترامب زيارته الخليجية في لقاء عقده مع رئيس دولة الامارات الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، حيث استعرض الجانبان آفاق التعاون وفرص توسيع مجالاته في الاستثمار والتكنولوجيا المتقدمة والذكاء الاصطناعي والطاقة التي توليها أبوظبي أولوية متقدمة. وقد تجلى التعاون الوثيق بإعلان خطة للاستثمار بين البلدين بقيمة 1.4 تريليون دولار على مدى العشر سنوات القادمة. كما شهد الشيخ محمد بن زايد والرئيس ترامب إعلان تدشين "مركز بيانات للذكاء الاصطناعي" بسعة 1 غيغاواط، وهو جزء من مجمع ذكاء اصطناعي مشترك بين البلدين. أما القضايا السياسية، فلم تغب عن محور اللقاء وفي مقدمتها الجهود المبذولة تجاه وقف إطلاق النار في قطاع غزة، واحتواء التصعيد في المنطقة الذي يهدد أمنها واستقرارها. يُشار الى أن ترامب هو ثاني رئيس أميركي يزور الدولة منذ الزيارة التي قام بها جورج بوش الابن عام 2008.
ومع انتهاء جولة ترامب تعود الاضواء لتتسلط على ما يجري في غزة بعدما صعَّدت القوات الإسرائيلية من غاراتها وهجماتها في أنحاء متفرقة من القطاع، مخلفةً أعدادًا كبيرة من الشهداء والجرحى الذين ازدحمت بهم المستشفيات، التي تعاني من نقص حاد في المواد الطبية والاستشفائية نتيجة الحصار المفروض من قبل الاحتلال. وتزامن هذا التصعيد العسكري مع عدم حدوث أي خرق في المفاوضات، التي تُعقد في العاصمة القطرية الدوحة، بحضور ممثلين عن "حماس" وإسرائيل والولايات المتحدة ومصر وقطر وذلك نتيجة رفض اسرائيل الحديث عن اي حل يتضمن وقف الحرب نهائيًا وإصرارها على هدنة مؤقتة في وقت تتمسك "حماس" بمطلب انهاء القتال والانسحاب الاسرائيلي التام من القطاع.
وكانت الحركة حذرت، في بيان، من أن عدم إدخال المساعدات الإنسانية إلى القطاع، من شأنه أن "يلقي بظلال سلبية على أي جهود لاستكمال المفاوضات حول عملية تبادل الأسرى"، مشيرة إلى أن إطلاق سراح الجندي عيدان ألكسندر، يوم الاثنين الماضي، جاء في إطار "مبادرة إيجابية" من جانبها للتخفيف عن سكان غزة وفتح المعابر لإدخال القوافل الإغاثية. ويسعى الوسطاء، بدعم أميركي واضح، لتقريب وجهات النظر بما يتيح إمكانية التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في غزة وبدء عملية تبادل أسرى وإدخال المساعدات الإنسانية وغيرها، ولكن ذلك لا يزال دونه الكثير من العُقد والعقبات.
تزامنًا، تقدم 29 عضوًا في مجلس الشيوخ الأميركي بمشروع قرار يطالب إدارة ترامب بإنهاء الحصار المفروض على سكان القطاع فورًا، مطالبين باستخدام كافة الأدوات الديبلوماسية للضغط على تل أبيب لوقف "الكارثة الانسانية" الحاصلة. كما أعربوا عن "قلقهم البالغ" إزاء التدهور المستمر للأوضاع هناك. ودقت "منظمة الصحة العالمية" ناقوس الخطر، مشددة على أن الوقت ينفذ لإنقاذ الأرواح في القطاع المحاصر. فيما قال برنامج الأغذية العالمي "إن العائلات في غزة تتضور جوعًا، في حين أن ما تحتاجه من غذاء عالق على الحدود". وحتى الساعة فشلت كل المناشدات والدعوات الدولية والاممية بثني اسرائيل عن قرارها المتعمد بتجويع أكثر من مليوني شخص وارتكاب إبادة جماعية.
وضمن السياق ذاته، أعلن الجيش الاسرائيلي، مساء أمس، أن دفاعاته الجوية اعترضت صاروخًا باليستيًا أطلق من اليمن مما تسبب في تفعيل إنذارات بمناطق عدة وأدى الى دخول الملايين من الإسرائيليين إلى الملاجىء. في وقت أعلن الناطق الرسمي بإسم الحوثيين أنهم استهدفوا مطار بن غوريون بصاروخ فرط صوتي. وقال "نعمل على تعزيز وتوسيع الفعل العسكري بهدف وقف العدوان ورفع الحصار عن غزة". ويأتي ذلك بعد يوم من اعتراض 3 صواريخ أخرى خلال 24 ساعة. وكانت الولايات المتحدة عقدت اتفاق "مفاجىء" بوقف الحرب مع الحوثيين بشرط عدم استهداف سفنها ولكن دون أن يشمل هذا القرار الجانب الاسرائيلي، ما اعتبر بأنه أول اشارة الى التصدع في العلاقات الاميركية - الاسرائيلية واختلاف مصالح الطرفين.
ومن المشهد في غزة الى تطورات الوضع السوري حيث استضافت مدينة أنطاليا التركية لقاء أميركيًا ـ سوريًا ـ تركيًا تركز حول بحث مستقبل سوريا بعد قرار الرئيس الأميركي رفع العقوبات التي كانت تعيق عملية اعادة الاعمار وخطة التعافي من أثار الحرب. وقد ضم اللقاء الثلاثي كلًا من وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو ونظيره التركي هاكان فيدان كما وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني الذي أعلن أن الاجتماع وضع "لبنة مهمة في بناء علاقات إستراتيجية مع الولايات المتحدة"، بما يعزز حضور دمشق الإقليمي والدولي، مشيرًا الى أنه سيتم عقد لقاء ثاني "بعد أسبوع".
وقبل يوم واحد من انعقاد القمة العربية في بغداد، شدد الرئيس العراقي عبد اللطيف جمال رشيد على "الدور المحوري للعراق وسعيه الدائم لترسيخ العمل المشترك؛ لمواجهة التحديات أمام المنطقة"، معربًا عن أمله بنجاح المفاوضات الأميركية - الإيرانية الجارية في العاصمة العُمانية مسقط كما جدد دعم بلاده للإدارة السورية الجديدة. يُذكر أن وزراء الخارجية العرب اعتمدوا أمس، الخميس، جدول أعمال الدورة الـ34 من القمة العربية وأقروا مبادرة عراقية جديدة لإنشاء صندوق عربي للتعافي والدعم الإنساني. وتطغى الملفات المتشابكة والمحتدمة على جدول أعمال القمة التي تُعقد في أوضاع صعبة واستثنائية ما يحتم اتخاذ قرارات حاسمة تؤكد على وحدة الصف العربي والخروج ببيان موحد يعكس الاهتمامات الحالية لشعوب المنطقة.
دوليًا، تتجه الانظار الى ما ستؤول اليه اجتماعات اسطنبول بشأن انهاء الحرب الاوكرانية حيث سيُعقد اليوم، الجمعة، محادثات تضم الوفدين الروسي والأوكراني بمشاركة تركية بعد تأجيلها ليوم واحد. وفي حين لا يعول كثر على الخروج بنتائج ايجابية، أعلن وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو أنه سيلتقي في إسطنبول نظيره الأوكراني أندري سيبيغا، على أن يلتقي مسؤول أميركي أدنى رتبة منه، الوفد الروسي. وكان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قرر التغيب عن الاجتماع مما أوحى بعدم توافر الأرضية المناسبة للتوافق بعد.
وفي جولة الصحف الصادرة اليوم:
كتبت صحيفة "الخليج" الاماراتية "العلاقات التي تربط الإمارات والولايات المتحدة تاريخية ومتجذرة منذ أكثر من نصف قرن، وتعود بالنفع ليس على البلدين وشعبيهما فقط، بل تمتد إلى الصعيدين الإقليمي والعالمي، في ظل محددات وثوابت راسخة". وتابعت "خصوصية العلاقة التي تربط البلدين، تترجم بشكل واقعي وملموس بشكل أكبر، حين يتعلق الأمر بلغة الأرقام، والتي تعبر عما وصلت إليه العلاقات الثنائية على صعيد التجارة والاستثمار، ومن الواضح أن سجل هذه العلاقات حافل بالمنجزات المحققة، وتلك التي ينتظرها أبناء البلدين في المستقبل القريب والبعيد".
"الاتحاد" الاماراتية، من جهتها، لفتت الى أن الزيارة "جاءت في توقيت مهم، حيث تشهد المنطقة تحولات كبرى، وتحتاج الدول إلى تحالفات قائمة على الاستقرار لا على المصالح الوقتية". وأضافت "في الوقت الذي تتراجع فيه كثير من التحالفات التقليدية حول العالم، تبرز العلاقة الإماراتية - الأميركية نموذجًا لشراكة متوازنة تحترم السيادة، وتبني على المصالح الحقيقية. وهو ما جعل كثيرًا من مراكز الدراسات الدولية تعتبر الإمارات نقطة ارتكاز للاستقرار في الشرق الأوسط".
ولم تغب ايضًا الزيارة وتأثيراتها عن صحيفة "العرب" القطرية التي اشارت الى أن "العلاقات القطرية الأمريكية شهدت تطورًا ملحوظًا خلال السنوات الأخيرة، وتأتي زيارة ترامب إلى الدوحة كتتويج لهذا التقدم، وخطوة تعزز الشراكة الإستراتيجية بين البلدين"، معتبرة ان "الدوحة ليست مجرد حليف إقليمي، بل شريك عالمي يساهم في استقرار المنطقة وتعزيز السلام الدولي. ومع استمرار التعاون في قضايا مثل غزة وأوكرانيا، يتوقع أن تظل العلاقات القطرية الأمريكية نموذجًا للشراكة الاستراتيجية في عالم متغير".
من جانبها، أشارت صحيفة "عكاظ" السعودية الى أن "الرئيس ترامب لديه خطط واضحة ومحددة، وتتمحور في أن يصبح الاقتصاد هو مركز العلاقات التي تربط بين بلده وبين الدول الأخرى"، موضحة أن "اختيار المملكة لتغدو المحطة الأولى في جدول زياراته الخارجية لم يكن عشوائيًا أو بمحض الصدفة، فاختيار الدولة الأولى التي يزورها الرئيس الأمريكي يخضع للعديد من المعايير الدقيقة من وجهة نظر الإدارة الأمريكية، وهي الخطوة التي تعقبها العديد من الخطوات التي تصبّ جميعها في طريق واحد ومحدد وهو طريق الشراكة الاستراتيجية متعددة الجوانب".
وأكدت صحيفة "الوطن" البحرينية أن زيارة الرئيس الأمريكي للمملكة العربية السعودية ودول الخليج "لم تكن صدفة، بل جاءت لثقل منطقة الخليج اقتصاديًا وسياسيًا في ظل التنمية المتسارعة والتي تحدث عنها ترامب وأشاد بالتطور الكبير والمتنامي لدول الخليج"، متوقعة أن يكون لهذه الدول "الدور البارز والكبير في إنعاش الاقتصاد الأمريكي بضخ المليارات والاستثمارات في الولايات المتحدة، وهذا ما سوف ينعكس على تطور مستويات العلاقات الوطيدة بين أمريكا ودول الخليج كمنظومة فاعلة في المنطقة".
وقالت صحيفة "الراي" الكويتية "تكتسب القمة الخليجية – الخليجية، وكذلك القمة الخليجية – الأميركية، أهمية استثنائية، لكونها تسعى إلى رسم معالم جديدة لعلاقات إقليمية تتناسب مع مرحلة عالمية تشهد تحوّلًا في بنيتها الهيكلية. فمع هذا النسيج المعقد من المتغيرات، لم يعد هناك شيء ثابت، مما يفتح الباب أمام ظهور سيناريوهات متعددة، لكل منها معادلاته الإستراتيجية"، معربة عن أملها "في أن تستثمر دول الخليج هذه الفرصة التاريخية التي يتيحها النظام العالمي، لتُعيد تموضعها الإستراتيجي بما يخدم أمنها ومصالحها، ويُعزّز حضورها في صياغة معادلات الإقليم والعالم".
بدورها، رأت صحيفة "الأهرام" المصرية أن "جولة ترامب الخليجية، التي شملت السعودية وقطر والإمارات، قد تكون بداية حقيقية لإنهاء غالبية أزمات المنطقة، لو تبنت إدارته مسارًا شاملًا، يستند إلى رؤية واضحة تحقق الاستقرار والأمن لكل الأطراف". وأردفت "لن نختلف لو ربطت كلام الرئيس ترامب بمخرجات قمة القاهرة العربية الطارئة، قمة الضربات القاضية الفنية، التي اعتمدت الخطة المصرية، لإعادة إعمار غزة، دون تهجير أهلها، باعتبارها "خطة عربية جامعة"، على حدّ تعبيرها.
(رصد "عروبة 22")