تقدير موقف

المنطقة بين القمّة "الترامبية" والقمّة العربية!

تزدحم المنطقة بأحداث وتعجّ بتطوّرات هائلة، وتُضاعف زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى المملكة العربية السعودية في ترسيمٍ جديدٍ للتضاريس الجيوستراتيجية، خصوصًا بعد الحروب الخطيرة التي عصفت بالمنطقة ولم يزلْ لهيبها يتناسل فوق مديات "الهلال الشيعي" الذي سبق أن حذّر منه العاهل الأردني عبد الله الثاني بُعيْد سقوط بغداد بعدما شكّل قوسًا استراتيجيًا للنّفوذ الإيراني المتغوّل في البلاد العربية من "باب المندب" إلى "بوابة فاطمة".

المنطقة بين القمّة

لم تزلْ نتائج الهجمة الإسرائيلية المرتدّة على "طوفان الأقصى"، تتناسل في إمعان إسرائيل بعمليات الإبادة الجماعية ضد أهالي غزّة، وتستمرّ خروقاتها لوقف إطلاق النار في لبنان بحجّة تدمير أسلحة "حزب الله"، وتُكمل تدمير ما تبقى من قوّة الجيش السوري، فضلًا عن اختراق السيادة السورية، وآخرها "النبش" في ركام وأنقاض مخيّم اليرموك لاستعادة رفات "تسفيكا فيلدمان" أحد جنودها الذين قُتلوا خلال اجتياح لبنان عام 1982، ويُفنّد قصتهم زياد الحمصي في كتابه "لغز الجنود الإسرائيليين الثلاثة".

كما لم يَزَلْ "الغموض المُريب" يلفّ عملية نقلهم من "السلطان يعقوب" إلى محيط دمشق، معزّزًا غموضًا سابقًا سلّم بموجبه الرئيس الروسي بوتين في أبريل/نيسان 2019 لبنيامين نتنياهو أشلاء جثة الجندي الاسرائيلي "زخريا باومل" التي، بحسب بوتين، "عثَر عليها عسكريون روس وسوريون في محيط دمشق أيضًا"، وهو ما نفته يومها حكومة بشّار الأسد، كما "نفت علمها مطلقًا بوجود رفات إسرائيليين فوق أرضها".

لدى "ترامب الثاني" الكثير من الليونة والرشاقة السياسة والإعلامية ليستدير حول نفسه كلّما اقتضت الظروف ذلك

وبدا توقيت الإعلان عن عملية استعادة رفات إسرائيلي من دمشق، وكأنّه محاولة مدروسة من نتنياهو بهدف خطف الأضواء عن عملية الإفراج عن الإسرائيلي الأميركي عيدان ألكسندر، والتي بدت في إخراجها الأميركي بمثابة صفعةٍ سدّدها ترامب إلى وجه نتنياهو ولا سيّما أنّها كانت ثمرة مفاوضاتٍ ثنائيةٍ بين الولايات المتحدة وحركة "حماس". ما فتح المجال للكوابيس أن تتحرّك في كواليس القرار الإسرائيلي، وأن تُزخّم حركة الشارع للمطالبة بصفقةٍ توقف الحرب وتُعيد الأسرى، ولا سيّما أنّ "حماس" وجدت في هذه العملية نوعًا من الاعتراف الأميركي بها.

وقد سبق صفعة الافراج عن ألكسندر، صفعةً أشدّ إيلامًا تلقّاها نتنياهو من دونالد ترامب، عندما أعلن عن وقف إطلاق النار مع الحوثيين، وهي العملية التي لم يتّضح فيها حتى الآن مَن تنازل لمَن. لكنّ الصفعة الأشدّ إيلامًا كانت تلك المتعلّقة باستدعاء نتنياهو إلى البيت الأبيض ليسمع من ترامب مباشرةً على الهواء انطلاق المفاوضات مع إيران حول مشروعها النووي، وهو الخبر الذي كاد ينسينا المهزلة التي أصابت فولوديمير زيلينسكي على الكرسي الأصفر ذاته الذي جلس عليه نتنياهو.

تُطلق المواقف الترامبية الكثير من الإثارة والتشويق الإعلامي والسياسي، لتُحدثَ بعد كل موقفٍ جلبةً كبيرةً من التأويلات والتقلّبات في المواقف المتعارضة والمتطابقة. فلدى "ترامب الثاني" الكثير من الليونة والرشاقة السياسة والإعلامية ليستدير حول نفسِه وحول مواقفِه كلّما اقتضت الظروف ذلك.

لقد بيّن رفع ترامب لرسوم التعرفات الجمركية مع الحلفاء قبل الخصوم قدرةً تهدف لإعادة رسم طاولات التفاوض حول العالم، ونجدها تنتصب في مسقط مع الإيرانيين، وفي جنيف مع الصينيين، وفي قطر مع الحمساويين، وفي الرياض مع الخليجيين... من دون أن يتراجع ترامب عن خطته المجنونة لضمّ كندا وغيرها.

يبقى الأهم في ما سترسيه القمة الخليجية الأميركية حول بلدان المشرق العربي المتهاوية

من دون شكّ، كانت قمة الرياض الخليجية - الأميركية الأكثر إثارةً وتشويقًا، ولا سيّما أنّها القمة التي عُقدت قرب فوّهة البراكين الخامدة والمشتعلة في آن. إنّها القمة التي تستجيب لمطالب السعودية في امتلاك القدرة النووية السلمية، وفي توطين صناعات عسكرية وتكنولوجية، فضلًا عن إرساء سلّةٍ ضخمةٍ من الاستثمارات في الاقتصاد الأميركي. لكن يبقى الأهم في ما سترسيه حول بلدان المشرق العربي المتهاوية بفعل الضغوط الحربية الإسرائيلية التي تستهدفها من فلسطين الى لبنان، وليس انتهاءً بسوريا التي فاجأها ترامب برفع العقوبات عنها استجابةً لطلب ولي العهد السعودي.

قمّة الرياض تأتي وكأنها تحذف زمن وتداعيات عهد بايدن بأكمله، وتكمل من حيث انتهت ولاية ترامب الأولى التي أبقت "صفقة القرن" معلّقةً في الهواء، وقد نجحت إسرائيل في تجويف جغرافيتها وديموغرافيتها لأبعد الحدود، وهي تستعدّ لإطلاق عملية إعادة احتلال غزّة وتهجير سكانها الى منافٍ عدة، وهي عملية لا يوقفها إلّا النزول عند مطالب القمم العربية والإسلامية، فهل يفعلها ترامب ويعلن التزامه "حلّ الدولتيْن"، واعترافه بالدولة الفلسطينية؟.

صيغة المطلب العربي الإسلامي بدولةٍ فلسطينيةٍ و"حلّ الدولتيْن"، باتت بفعل الاحتلال والتهديد الإسرائيلي أشبه بمطلب تسوّلي، لا يفرضه توازن القوى المختلّ لصالح "إسرائيل"، إلّا إذا عدّل ترامب ميزان التوازن بما يؤدّي لفرض "حلّ الدولتين" وليس تسوّله أو استجداءه.

سؤال حقيقي حول مدى تحكّم ميليشيات إيران بالدولة العراقية

وبالكلام عن قمّة الرياض وجولة ترامب على قطر والامارات، أتى انعقاد القمّة العربية في بغداد خافتًا وباهتًا كالعادة، لكنّ الإثارة السياسية والإعلامية التي افتعلتها شخصيات وفصائل عراقية موالية لإيران ضدّ مشاركة الرئيس السوري أحمد الشّرع بحجة أنه مطلوب للقضاء العراقي بجرائم ارتكبها ضمن تنظيم "القاعدة"، طرحت سؤالًا حقيقيًا حول مدى تحكّم ميليشيات إيران بالدولة العراقية التي فرضت حظرًا للتظاهر خلال انعقاد القمّة العربية. لكن مَن قال إنّ حظر التظاهر بإمكانه تأمين القمّة وضمان سلامة المشاركين فيها. ففي زمن المُسيّرات يتحوّل فرض الأمن الى نكتةٍ سمجة، ولا داعي للتذكير بتلك المُسيّرة التي استهدفت منزل رئيس حكومة العراق السابق مصطفى الكاظمي في عمق المنطقة الخضراء وكادت تقضي عليه!؟.

ولعلّ الوقائع السياسية الواردة من العراق، لم تُوفّر الرئيس اللبناني جوزاف عون من النقد والتجريح المُهين من قبل شخصيات ورجال دين بسبب مقاربته لحصرية السلاح بيد الدولة، وهي الوقائع التي سبق وكشفت أجزاء منها زيارة الأمين العام للمشروع الوطني العراقي الشيخ جمال الضاري الذي التقى الرئيس اللبناني مُهنّئًا بانتخابه وبقرار حكومته حصر السلاح بِيَدِ الدولة. لكنّ الأهم فيما كشفته زيارة الضاري إلى بيروت، أنّ تهديداتٍ مباشرةً حالت دون مشاركة عددٍ من النواب والشخصيات العراقيين في زيارة لبنان ورئيسه!.

... ومن العراق، مكان انهيار المشرق العربي، تكون نهضته الجديدة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن