ليس من قبيل التكرار الحديث عن خطورة وجود ميليشيات في أي دولة، وأن هذه الميليشيات هي البوابة الواسعة لفشل أي دولة وتعثرها وتخلفها وانقسامها وتشرذمها. وفي الأيام الماضية تأكد للجميع خصوصاً العرب، وبما لا يدع مجالاً للشك خطورة ظاهرة الميليشيات على استقرار الدول، بل ربما على وجودها ذاته.
ما حدث في العاصمة الليبية طرابلس درس وعظة لكل قوى التطرف في الوطن العربي، ومن سار خلفها وصدق ادعائها ومزاعمها بأن الميليشيا يمكن أن تحدث تغييراً أو استقراراً أو تقدماً. قوى التطرف المتمسحة باسم الدين والمتاجرة به كانت السبب الأساسي في الحالة الصعبة التي وصلت إليها ليبيا والعديد من الدول العربية التي ابتليت بهذا الوباء المعدي والخطير.
نتذكر أن هذه الميليشيات سيطرت على العاصمة طرابلس وبعض المدن الليبية بعد سقوط نظام الرئيس معمر القذافي في نهاية عام 2011، ونتذكر أن أطرافاً إقليمية ودولية لعبت دوراً خطيراً في منع جمع أسلحة المسلحين والميليشيات التي ساهمت في إسقاط القذافي، وتحدثت التقارير وقتها عن وجود أكثر من 23 مليون قطعة سلاح، تحولت لاحقاً إلى وقود للاقتتال الأهلي ليس فقط في أيدي بعض الليبيين ولكن المرتزقة أيضاً.
الخطير أن بعض السذّج كانوا يصدقون فعلاً أن هذه الميليشيات تحارب وتناضل من أجل تحرر ليبيا ومنع عودة نظام القذافي، لكن ما حدث أكثر من مرة في السنوات الأخيرة، خصوصاً يوم الاثنين الماضي يكشف بوضوح أن الميليشيات هي الفيروس الأكثر فتكاً بوحدة واستقرار أي دولة. هذه الميليشيات كانت تزعم أنها تدافع عن الحكومة الموجودة في العاصمة طرابلس وللأسف صدقها البعض، حتى بدأت تحارب بعضها البعض في السنوات الأخيرة.
يوم الاثنين الماضي وقعت اشتباكات ضارية في منطقة أبوسليم في طرابلس بين ميليشيا قريبة من حكومة عبدالحميد الدبيبة وبعض أجهزة الأمن من جهة، وميليشيا أخرى يرأسها عبدالغني الككلي وتدعى "جهاز الدعم والاستقرار"، وانتهى الأمر بمصرع الككلي المشهور باسم "غنيوة" وبعض كبار مساعديه، وسيطرة الميليشيات الأخرى القريبة من الدبيبة على منطقة أبوسليم.
قادة معظم هذه الميليشيات لم يلتحقوا بجيوش، ولا يعرفون ما معنى القواعد العسكرية أو قواعد الاشتباك أو فكرة الجيش الموحد للبلد بأكملها، ولذلك لا يتفاجأ المرء حينما يعرف أن شخصاً كان يعمل في السابق "فراناً" قد تمكن عبر تأجير مجموعة من المرتزقة أو العاطلين أو حتى المهاجرين الأفارقة من تكوين ميليشيا تبتز الشركات والوزارات والمؤسسات والشخصيات، وتحصل منهم على إتاوات ومن يرفض الدفع يتعرض للخطف أو القتل أو الابتزاز.
كان مثيراً للانتباه أنه حتى حينما توقفت الحرب المباشرة بين ميليشيات طرابلس والحكومة المدعومة من مجلس النواب الشرعي في بنغازي، شعرت هذه الميليشيات بالقلق لأن الاستقرار يعني نهاية دورها .. وبالتالي لم يكن مفاجئاً أن تتقاتل وتتحارب وتتصارع فيما بينها، رغم أنها كانت تزعم أنها تدين بالولاء لفكرة وأيديولوجية واحدة.
ما حدث أكثر من مرة في ليبيا، خصوصاً في طرابلس الأسبوع الماضي، يؤكد للمرة الألف أن الميليشيات مهما رفعت من شعارات فهي خطر حقيقي على استقرار أي مجتمع، ولا يمكن استبعاد أن تعمل لمصلحة أي قوة خارجية كمرتزقة من أجل استمرار حصولها على المنافع. لا توجد دولة انتشر بها وباء الميليشيات إلا وتعرضت للفتنة والتقاتل على أسس طائفية أو جهوية أو عرقية، وانتهى بها الأمر إلى الانقسام والفشل، والأمثلة في منطقتنا العربية كثيرة للأسف الشديد.
والدرس الليبي يقول لنا بوضوح أهمية أن يكون في أي دولة جيش واحد ومؤسسات واحدة حتى لو كان أداؤها لا يرضي الجميع، لأن عكس ذلك هو خطر على وجود الدولة نفسها.
(الخليج الإماراتية)