غلبت ملفات المنطقة وتعقيداتها على القمة العربية الـ34 التي عُقدت في العاصمة العراقية بغداد، تحت شعار "حوار وتضامن وتنمية"، وسط حضور عدد من الرؤساء والزعماء وممثلي الدول العربية، الذين ناقشوا ما تمر به المنطقة من تحديات جسام مع استمرار الحرب الاسرائيلية وتوسيعها في غزّة والاوضاع الدموية في السودان ناهيك عن تطورات المشهد السوري بعد رفع العقوبات الاميركية، والتي شكلت احدى "المكاسب السياسية" لزيارة الرئيس الاميركي دونالد ترامب "التاريخية" الى 3 عواصم خليجية وما حققته على صعيد رسم مسارًا جديدًا في العلاقات وتكريس منطقة الخليج كلاعب اقليمي محوري.
الا انه كما بات معتادًا تشكل الاختلافات في وجهات النظر العربية - العربية احدى العوائق أمام الخروج بقرارات صارمة ومخرجات عملية تتلاءم مع هول الاحداث والمجريات، خاصة ان "اعلان بغداد" الختامي لم يرق الى مستوى ما يجري ولاسيما على الصعيد الغزاوي من ابادة جماعية وتطهير عرقي رغم ان القضية الفلسطينية احتلت سلّم الاولويات. وفي هذا الاطار، لم تخرج القمة عن المعتاد لجهة ابداء الرفض القاطع لأي شكل من أشكال التهجير والنزوح للشعب الفلسطيني، داعية الى وقف الحرب فورًا واتخاذ خطوات لا رجعة فيها لتنفيذ حل الدولتَيْن كما طالبت بنشر قوات حماية وحفظ سلام دولية تابعة للأمم المتحدة في فلسطين.
أما بالنسبة الى الوضع السوري، فقد دعا المجتمعون الى احترام خيارات الشعب بكل مُكوّناته وأطيافه ودعم وحدة الأراضي السورية ورفض جميع التدخلات الخارجية التي يمكن أن تعيق الانتقال نحو عملية سياسية شاملة مع التشديد على ضرورة عقد مؤتمر حوار وطني شامل يضم مكونات الشعب السوري كافة. هذا ولم يغب لبنان عن النتائج أيضًا لجهة رفض كل الاعتداءات والخروقات الاسرائيلية مع التشديد على اهمية تطبيق القرار 1701 ومندرجاته. والحال عينه من التوصيات بشأن الاوضاع في اليمن والسودان وما يمران به من اقتتال ونزاع دموي ينعكس بشكل كبير على المشهد الاقليمي العام.
ورغم كل ما تقدم شكّل انعقاد القمة في العراق بظل هذه الظروف "الاستثنائية" فرصة لبغداد لاستعادة دورها الاقليمي في مجالات السياسة والاقتصاد والأمن بعد تراجع النفوذ الايراني الذي هيمن على قرارها لسنوات مضت، لاسيما مع محاولات البلاد المستميتة للنأي بنفسها عما يجري من حولها من اضطرابات واعتماد سياسة الحياد ما جعلها بمأمن من الاعتداءات الاسرائيلية بعد توسعها اثر عملية "طوفان الاقصى". وازاء ذلك، يبدو أن المنعطفات المصيرية التي تمر بها المنطقة لن تعالج على طاولة القمم العربية بل هي بحاجة الى صفقة شاملة لم تنضج ظروفها بعد.
وبانتظار الوعود الأميركية بإدخال المساعدات الانسانية الى قطاع غزّة المُحاصر بعد اطلاق سراح الاسير المزودج الهوية عيدان الكسندر "كبادرة حسن نية"، وسعّت القوات الاسرائيلية من عمليتها العسكرية، والتي اطلقت عليها إسم "عربات جدعون"، وذلك بهدف احتلال القطاع والاحتفاظ به بعد دفع السكان المدنيين الفلسطينيين نحو جنوب القطاع، بحسب تصريحات المسؤولين الاسرائيليين. في وقت تستمر فيه مفاوضات الدوحة لتحقيق خرقًا ما بعدما دخلت واشنطن على خط الازمة رسميًا من خلال الاتصال الهاتفي الذي أجراه وزير خارجيتها ماركو روبيو برئيس الوزراء الاسرائيلي بنامين نتنياهو المصرّ على "هدنة مؤقتة" مقابل اطلاق سراح الرهائن لدى حركة "حماس".
من جهتها، تدرك الحركة ان الوضع شديد التعقيد الا انها تصر على السلة المتكاملة التي تربط بين الافراج عن المحتجزين ووقف الحرب بشكل كامل. وفي هذا السياق، تكثر التقارير والمقالات التي تتحدث عن دول تستقبل سكان غزة وذلك بعدما نقلت شبكة "إن.بي.سي نيوز" عن مصادر مطلعة اشارتها الى وجود خطة لدى الرئيس ترامب تقضي بنقل نحو مليون فلسطيني من قطاع غزة إلى ليبيا بشكل دائم وهو ما يؤكد أن نزعة التهجير لا تزال قائمة ويتم العمل عليها على قدم وساق. ورغم نفي السفارة الأميركية في طرابلس هذه الأنباء، الا انها ليست المرة الاولى التي يتم الكشف عن اتصالات تجري مع اكثر من دولة لاستقبال سكان القطاع بعد تهجيرهم. يُذكر ان مصر والاردن كانتا من اوائل الدول الرافضة للتهجير وقادتا حملة ديبلوماسية نشطة لرفض هذه الخطط والمقترحات بشكل كامل.
وتعمل كل من واشنطن وتل أبيب، رغم ما يُحكى عن تصدع تحالفهما، الى وضع سكان القطاع أمام خيارين لا ثالث لهما وهو إما الموت قتلًا وجوعًا وعطشًا وإما الرضوخ وقبول فكرة التهجير. ويرزح القطاع منذ شهر آذار/ مارس الماضي تحت حصار مشدد فرضته قوات الاحتلال مانعة قوافل المساعدات من الدخول ما رفع مستوى التحذيرات من خطر المجاعة وتداعيات سوء التغذية لاسيما بين الاطفال والنساء. وكان رئيس المجلس الأوروبي أنطونيو كوستا أعرب عن شعوره بالصدمة إزاء ما يحدث في غزة من تجويع للمدنيين وقصف متكرر للمستشفيات، واصفًا الوضع بـ"المأساة الانسانية، حيث يتعرض شعب للسحق على يد قوة عسكرية".
المأساة اليومية في غزة رافقها بروز "أمل" في سوريا بعد تشكيل السلطات رسميًا "الهيئة الوطنية للمفقودين" للكشف عن مصير "آلاف" من المفقودين والمخفيين قسرًا في عهد النظام السابق، ما يشكل فرصة للعائلات لمعرفة مصير أحبتها بعد انتظار دام لسنوات. وضمن الاطار، أعلن وزير الدفاع السوري مرهف أبو قصرة دمج جميع الوحدات العسكرية ضمن وزارة الدفاع في خطوة لتعزيز الأمن والاستقرار وحصر السلاح بيد الدولة، ما يشكل واحدة من أهم المسؤوليات الملقاة على عاتق الادارة السورية الجديدة التي تجهد لتحسين المستوى المعيشي والاقتصادي. الى ذلك، خطفت الاشتباكات العنيفة في حي الجزماتي بمنطقة جبل الحيدارية، شرق مدينة حلب، بين قوى الأمن العام السوري وخلية لتنظيم "داعش" الأضواء، خاصة انها أتت بعد المطالب الاميركية بالانخراط في التحالف الدولي للقضاء على التنظيم الإرهابي.
ومن سوريا الى ايران التي توعد مرشدها الاعلى علي خامنئي الولايات المتحدة "بالمغادرة من المنطقة والرحيل"، متهمًا إياها بالسعي وراء "فرض نموذج تابع على الدول يكرس التبعية الدائمة لها". ورفض خامنئي تقديم تنازلات في المجالين العسكري والنووي، قائلاً إن بلاده "ستزداد قوة وستحقق تقدمًا مضاعفًا ليصاب الأعداء بالعمى من حسرتهم". من جهته، قال الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، في وقت سابق، إن "ترامب يتحدَّث عن السلام والتهديد في آن واحد". وإذ أكد أن طهران ستواصل المحادثات النووية مع الولايات المتحدة، شدد على عدم الخشية من التهديدات قائلًا "نحن لا نسعى إلى الحرب". وتأتي هذه التصريحات العالية النبرة في الوقت الذي تجري فيه واشنطن وطهران مباحثات بوساطة عُمانية، منذ 12 نيسان/ أبريل سعيًا إلى اتفاق جديد بشأن برنامج طهران النووي دون أن ترشح حتى الساعة أي معلومات عن تقدم ملموس.
دوليًا، لم تصل لقاءات اسطنبول الى أي نتيجة بشأن مفاوضات انهاء الحرب الأوكرانية ما دفع الرئيس الاميركي الى الاعلان عن اتصال هاتفي سيجريه مع نظيريه الروسي والأوكراني غدًا، الاثنين لوقف حمام الدم. بينما يصر الرئيس فلاديمير بوتين على وضع "يده على الزناد" وتوسيع العمليات العسكرية وهذا ما بدا جليًا من خلال استهداف العاصمة كييف بسرب من الطائرات المسيّرة، دون الحديث عن وقوع اي خسائر بشرية.
ونرصد في جولة الصحف العربية الصادرة اليوم تنوع اهتماماتها بين قمة بغداد وزيارة ترامب الخليجية وصولًا للوضع المُعقد في غزة. وضمن هذا الاطار:
أشارت صحيفة "الخليج" الاماراتية الى أن "قمة بغداد" "قد لا تختلف عن سابقاتها من القمم العادية والطارئة، وإن كان الحضور على مستوى القادة أقل من نظيراتها نسبيًا، ولكن كل الدول كانت ممثلة وفاعلة، وأعادت التأكيد على كل البيانات والمواقف المعروفة"، معتبرة أن "الوضع الراهن يفرض آليات عمل جديدة وقدرة على تجسيد التضامن وتوحيد الرؤى بما يسمح بتحقيق أهداف التنمية والاستقرار وحفظ سيادة وأمن الدول الأعضاء في الجامعة".
بدورها، رأت صحيفة "الوطن" القطرية أن "تحقيق التضامن وترسيخ التكامل هو الشرط الأول لمواجهة التحديات المعقدة التي تجابه المنطقة، ومن ذلك بطبيعة الحال، القضية الفلسطينية، وما يتعرض له الشعب الفلسطيني في قطاع غزة من حرب إبادة وحشية"، مشددة على أن "القضية الفلسطينية تبقى في صدارة أولويات القادة العرب، وشكلت محورًا أساسيًا في مواقفهم ومقرراتهم، لكن كل ذلك لن يكون كافيا ما لم يتمكن العرب من تحقيق التضامن والتنسيق المطلوبين لحل كل المشكلات القائمة في المنطقة، وعلى رأسها القضية الفلسطينية".
وتحت عنوان "قمة بغداد بين رؤيتين"، كتبت صحيفة "الصباح" العراقية "تنعقد قمة بغداد والعالم يعيش لحظة اندماج للأزمنة المتعددة في "زمن واحد" اذ يقود الرئيس الأميركي نهجًا مبتكرًا لتسوية الأزمات يقوم على إنتاج "السلام" عبر تبادل المصالح المادية في إطار استراتيجية أميركية جديدة تستجيب لفكر "جيل زد" وما بعده". وختمت "حرائق العالم العربي ستظل مشتعلة ما دامت لغة السياسة لدينا تقوم على قاعدة المغالبة السلطوية لا الشراكة وتقاسم المنافع. وما لم يعِ العرب حكامًا ومحكومين مفترق الطرق هذا، فان المستقبل لن يكون مختلفًا عن الحاضر العربي الراهن"، وفق تعبيرها.
زيارة الرئيس ترامب في محطاتها الخليجية الثلاث تناولتها صحيفة "عكاظ" السعودية التي لفتت الى "أنه كان على أمريكا أن تعود للمنطقة العربية بالشكل الذي حدث بعد فتور العلاقات وما يشبه الغياب خلال فترة الرئيس السابق جو بايدن". وقالت "من حسن الحظ أن ترامب عاد إلى البيت الأبيض، رئيس يؤمن بأولوية المصالح المشتركة وضرورة تعزيزها وتحقيق الاستفادة القصوى لكل الأطراف. تحسين الاقتصاد هو شعاره الأبرز، لا توجد لديه أقنعة يخفي وراءها أجندات مريبة، لذلك يكون التعامل معه مريحاً ومباشراً".
وعقبت صحيفة "البلاد" البحرينية أيضًا على الزيارة التي "لم تكن تقليدية، بل شكلت محطة مفصلية في مسار العلاقات الأميركية الخليجية، وكشفت عن تحوّلات عميقة في مفهوم التحالفات والشراكات الدولية". وأضافت "دول الخليج، بمواردها وخططها التنموية الطموحة، لم تعد مجرد ساحات نفوذ تتنازعها القوى الكبرى، بل تحوّلت إلى أطراف فاعلة في رسم خرائط الاقتصاد العالمي وصياغة التوازنات الجيوسياسية.
أما صحيفة "الأهرام" المصرية، فلفتت الى أن زيارة ترامب تشكل "رسالة واضحة للشعب الأمريكي انه قادر على إيجاد حلول أمام التحديات التي يواجهها الاقتصاد نتيجة الحرب التجارية التي يشنها ترامب على الصين والمكسيك وكندا ودول أخرى، بسبب التعريفات الجمركية المرتفعة، وإظهار قدرته على إتمام صفقات ذات عائدات غير مسبوقة لمصلحة الولايات المتحدة، لتكون دليلًا قويًا أمام الداخل الأمريكي على نجاح سياساته الاقتصادية"، واضعة "النتائج السياسية في المستوى الثاني من الزيارة وأهمها توجه ترامب للرفع التدريجي للعقوبات الاقتصادية على سوريا، ومحاولته وقف حرب القتل والتجويع والحصار بغزة، والاتفاق مع إيران".
الى ذلك، تطرقت صحيفة "الغد" الاردنية الى الوضع في غزة قائلة "لا يمكن وقف مخططات التهجير بمجرد الاعتراض عليها، لان تنفيذها لن ينجح إذا وقف الكل ضدها، لكن اجتماع الظروف الدموية، مع فتح ممرات آمنة، أو استقبال دول للفلسطينيين سيؤدي إلى التهجير، حيث لا يمكن وضع أبناء غزة مثلا تحت اختبار لمنسوب وطنيتهم، فيما هم تحت الذبح اليومي"، موضحة أنه "قيل مرارًا ان ما بعد حرب غزة، اسوأ بكثير من حرب غزة، وفي الوقت ذاته لا يمكن اعتبار أن كل شيء يخطط له الاحتلال، سينجح".
(رصد "عروبة 22")