تقدير موقف

الموحّدون الدروز في المتن السوري

لا يشكّل الواقع السوري استثناءً في تعدّد وتنوّع مكوّنات جماعته الوطنية، إنّما هو يتقارب في تعدّديته وتنوّعه مع حالات دولٍ أخرى في العالم وسط اختلاف في اسم وانتماء المكوّنات وطبيعتها ونسبتها وتفاصيل أخرى، مما يمنح هذا البلد او ذاك بعضًا من ملامح تكوينه.

الموحّدون الدروز في المتن السوري

حسب الوضع الذي نشأت عليه سوريا، بموجب اتفاقيات "سايكس – بيكو" الفرنسية - البريطانية لاقتسام المشرق العربي بداية القرن العشرين، فقد كان الموحّدون الدروز أحد مكوّنات الجماعة الوطنية، وعلى الرَّغم من أنّ القسم الرئيس منهم كان منتشرًا في جبل حوران المعروف أيضًا باسم جبل الدروز، فقد وُجدت مجموعات منهم في مناطق سورية أخرى أوّلها مجموعة قرى جبل السمّاق في الشمال الغربي ما بين إدلب وحلب، والثانية في دمشق ومحيطها في جرمانا وصحنايا وقرى جبل الشيخ، والثالثة في خمس قرى شمال الجولان الذي احتلّت القسم الأكبر منه إسرائيل في حرب العام 1967.

وعلى الرَّغم من الهزّات السياسية والعسكرية، التي ضربت سوريا في القرن الأخير، فقد حافظ الدروز، كما المكوّنات السورية الأخرى، على وجودهم ودورهم في مفاصل الحياة السورية، فكانوا في عداد من رفض تقسيم سوريا إلى كياناتٍ جهوية وطائفية، طرحها الانتداب الفرنسي عامَي 1920 و1921، وانخرطوا في الثورة السورية الكبرى (1925-1927) ضدّه، وتولّى سلطان الأطرش قيادتها. وبعد الاستقلال عام 1946، شاركوا في مجمل التطوّرات السياسية والاجتماعية والثقافية، التي عاشتها سوريا، حاضرين في الحكومات والبرلمانات ومؤسّسات الدولة السورية وفي الأحزاب السياسية والجماعات المدنية، وصولًا إلى مشاركتهم في ثورة السوريين ضدّ نظام الأسد.

رفضت المرجعيّات أن يخدم المجنّدون الدروز خارج مناطقهم وأن يساهموا في قتل السوريين

غير أنّ مشاركة الدروز في الحياة العامّة، ظلّت محدودةً لأسبابٍ كثيرةٍ بينها الإرث السلطوي العثماني في سياساته التمييزية إزاء "الأقلّيات المذهبية"، إضافةً إلى نسبتهم المحدودة في إجمالي عدد السوريين، وطرفيّة محافظة السويداء موطن عيشهم الرئيس في سوريا، وتمركز غالبيتهم في مناطق فقيرة ومحدودة الموارد، ممّا جعلهم يميلون أكثر إلى الهجرة والسفر، وقد مورست انتهاكات ضدّهم، كما حدث في عهود الديكتاتوريات العسكرية، والتي بلغت أوجها في العهد الأسدي الطويل ما بين 1970 و2024.

ففي ذلك العهد، تمخّضت سياسة الحاكم الديكتاتور عن تكريس إهمال مناطق انتشارهم ولا سيما محافظة السويداء، التي لم تشهد تطويرًا وتنميةً ملموسة، ومورس اضطهاد ضدّها شمل الطائفة والكثير من رجالاتها، كان من تعبيراته إشاعة اتهاماتٍ تُديرها السلطة وأجهزتها من دون تدقيق ولا سند، وكانت تتبعها إجراءات منها شنّ حملاتٍ أمنيةٍ على السويداء ومحيطها في إطار سياسة إرهاب، ودفع عشائر البدو في منطقة اللجاة للتحرّش بالقرى الدرزية المجاورة ومهاجمتها، كلّما رغب نظام الأسد بالضغط على أهالي السويداء لإجبارهم على اتخاذ مواقف معيّنة، تتوافق وسياساته، كان آخرها الضغط لوقف الحراك المدني في ساحة الكرامة دعمًا لثورة السوريين ضدّ نظام الأسد.

وتنوّعت أشكال محاربة النظام لرجالات السويداء على مدار عقودٍ متواليةٍ من العهد الأسدي، ومنها تهميش رجالات الثورة وفي مقدّمتهم سلطان الأطرش، واعتقال ولده منصور الأطرش وهو أحد القادة المؤسّسين لـ"حزب البعث" الذي يحكم الديكتاتور باسمه، وإبعاد حمد عبيد وفهد الشاعر من قادة انقلاب آذار 1963 عن السلطة، وهذه مجرّد أمثلة في مصائر الكثير من رجالات الدروز، ومنهم سليم حاطوم، وحمود الشوفي، ورفيق حلاوة.

أبرز إسهامات الدروز في ثورة السوريين حركة "رجال الكرامة" بقيادة الشيخ وحيد البلعوس ومبادرة "ساحة الكرامة"

إنّ التباس العلاقات بين نظام الأسد والموحّدين الدروز في سوريا، ترك أثره المباشر في موقف الأخيرين من ثورة 2011، وقد بدا مميّزًا ومنسقًا في تعبيراته، نتيجة اعتباراتٍ عامة واعتباراتٍ داخلية، حيث انتقل أنصار المعارضة المسلّحة للقتال على جبهات الصراع خارج السويداء، فيما تكرّس الحراك السياسي المؤيّد لمطالب التغيير في الأخيرة، وفُتحت أبواب بيوت السويداء وقرى جبل السمّاق أمام القادمين من مدن وبلدات سورية، هاجمتها قوات النظام والميليشيات التابعة لها، وجرى تقديم كلّ المساعدات الممكنة من دون مقابل، ورفضت المرجعيّات أن يخدم المجنّدون الدروز خارج مناطقهم، وأن يساهموا في قتل السوريين.

وإضافةً لما سبق، كان أبرز إسهامات الموحّدين الدروز في ثورة السوريين، أمران، الأوّل تشكيل حركة "رجال الكرامة" بقيادة الشيخ وحيد البلعوس عام 2012 لتكون وجه المعارضة المحلية ضدّ النظام من دون انضمامٍ رسميّ إلى أيّ من قوى المعارضة، واكتسبت الحركة شعبيتها بسبب رفضها انتهاكات أجهزة أمن النظام، وحمايتها الرّافضين للتجنيد الإجباري، وقد استمرّ دور حركة "رجال الكرامة" متواصلًا بعد اغتيال مؤسسها البلعوس. والثاني كان إطلاق مبادرة "ساحة الكرامة" في العام 2023، التي وإن كانت تجسّد نشاطات شعبية ضدّ النظام ومع الثورة، فإنّها كرّست انتقالاتٍ نوعيةً وكمّيةً في أنشطتها بعد اغتيال الشيخ البلعوس عام 2015، فكانت ساحةً للتظاهر والتحشدات الشعبية، ومكانًا للأنشطة الفنية والإبداعية والاجتماعية المرتبطة بالثورة. لقد كانت بحقّ نقطة تحوّل في الموقف من الثورة، ليس بالنسبة لمحافظة السويداء التي شاركت مدنها وقراها في فعاليات "ساحة الكرامة"، بل بالنسبة لبقية المحافظات السورية، وبخاصة تلك التي فرَضت فيها سلطات الأمر الواقع حدود الحراك الشعبي ومحتوياته، بعكس حراك السويداء الذي تنوّع وتعدّد، وتشارك فيه أهل المنطقة مع سوريين من المناطق الأخرى.

الدروز مثل الكثير من السوريين تجاوزوا مظالم العهد الأسدي وظلوا أوفياء لانتمائهم العربي السوري

ثمّة الكثير من التفاصيل، تستحق أن تُطرح في الحديث عن الموحّدين الدروز باعتبارهم جزءًا من مكوّنات الجماعة الوطنية في سوريا، وهم مثل الكثير من السوريين تجاوزوا مظالم لحقت بهم في العهد الأسدي وقبله، وظلوا أوفياء لانتمائهم العربي السوري وحريصين على التحرّك في حدوده، ولا يعيبهم ولا يعيب غيرهم من مكوّنات الجماعة الوطنية، أن يظهر أفراد هنا وهناك لديهم مواقف وسياسات خارج المصالح الوطنية أو في حالة صدامٍ معها، فهذا أمر آخر، ولا يبرّر حملات التحريض والتجييش التي تناولتهم مؤخرًا بصورةٍ متصاعدة، وتسبّبت في فتح دوائر عنف في جرمانا وصحنايا بدمشق وفي أماكن تتّصل بالسويداء، بات من الضروري تصفية آثارها خصوصًا بعد الاتفاقات التي تمّ التوصل إليها بين الحكومة السورية ومرجعيات الموحّدين.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن