ترجمات

الجمال والفنّ على عتبة اللّايقين!

تعريب: منعم دائخة – ليبيا

المشاركة

هذه ترجمة مقالة صدرت في منصّة "mexicosocial" وحرّرها ساوول أريانو ألمانثا: بروفيسور في النظريات الجماليّة، يعمل أستاذًا في كليّتي الحقوق والاقتصاد بجامعة المكسيك الوطنية المستقلة.

الجمال والفنّ على عتبة اللّايقين!

يُمثًل أركسيلاوس البيتاني، مؤسّس الشكوكية الأكاديمية والشخصية المحورية في تحويل أكاديمية أفلاطون، تحدّيًا مستمرًّا لأصحاب الفكرة الثابتة.

إنّ فلسفته - المُتمحورة حول تعليق الحكم (الإبوخية) ونقد اليقين الدوغمائي - ترسم مسارًا يجبر الحقيقة على مستوى من ديمومة التساؤل. وفي هذا السّياق، يُصبح الجمال والجماليّات والفنّ أرضًا خصبةً للتأمّل في الغموض والتعدّد ومقاومة المُطلقات.

لا يمكن فهم الجمال كصفة ثابتة أو عالمية كما اقترح أفلاطون

يقترح أركسيلاوس عبر منهجه - بعيدًا عن المفاهيم الميتافيزيقية الكلاسيكية التي تضع الجمال في عالم الأبدية أو المثالية - أسلوبًا جديدًا لمقاربة الفنّ والجماليات: لا كيقينيّات، بل كأسئلةٍ حيّة.

يستكشف هذا النصّ كيف تتردّد أفكار أركسيلاوس المعرفية والأخلاقية في المجالات الجمالية، كاشفًا عن مفهومٍ للجمال وثيق الصّلة بالشكّ والنّقد والحوار.

السياق الشكّي وأثره في الجماليات

يتّسم النّسق الفلسفي لأركسيلاوس، بهجومٍ منهجيّ على "الدوغمائية"، لا سيما تلك التي اعتمدها "الرواقيون"، الذين كانوا يعتقدون بإمكانية الوصول إلى الحقائق المُطلقة من خلال العقل. يزعم أركسيلاوس في مقابل ذلك، بأنّ الحكمة تكمن في تعليق الحكم، وهي حالةٌ من عدم اليقين صارت محورًا أساسيًا في فكره. هذا النهج ليس بشيء سلبيّ فقط، بل هو انفتاحٌ جذريّ على الحوار والاكتشاف. من هذا المنظور، لا يمكن فهم الجمال كصفةٍ ثابتةٍ أو عالميةٍ، كما اقترح أفلاطون، بل كتجربةٍ عرضيةٍ وذاتيةٍ للغاية.

يصبح الفن، إذًا، مساحةً لا تُفرض فيها المعاني، بل تتفاوض عليها؛ حيث لا يكون ما يُكشف عنه جوهرًا ثابتًا، بل تأويلات متعدّدة تقاوم الانغلاق الدوغمائي. لا تركّز جماليات أركسيلاوس على تعريف الجمال، بل تتجه نحو تحدي أيّ تعريفٍ يدّعي أنّه نهائي.

الجمال كتجربة من الشكّ

يرى أركسيلاوس أنّ الالتزام بـ"الإبوخية" يعني ضمنًا فهم الجمال في بُعده التجريبي، لا كفكرةٍ مجرّدة، بل كظاهرةٍ تنشأ من خلال اللقاء بين الذّات والموضوع. ويؤدّي هذا النسق إلى زعزعة استقرار التسلسل الهرَمي التقليدي بين الجمال المثالي والجمال المُدرك.

إذا كان الجمال في العالم المادّي، بالنسبة لأفلاطون، انعكاسًا ناقصًا للأشكال الأبديّة، فإنّ قيمة الجمال، بالنسبة لأركسيلاوس، تكمن تحديدًا في طبيعته العابرة والمُتغيّرة.

ليست التجربة الجمالية، في هذا الإطار، طريقًا نحو الحقيقة، بل هي استكشافٌ للمعقّد والغامض. فالمُشاهد لا يتأمّل العمل الفنّي ليكتشف جوهره الكامن، بل ليشاركَ في لعبة تأويلاتٍ لا حلّ لها بتاتًا. وهكذا يصير الجمال ممارسةً للمقاومة: مقاومة فرض معنى واحد، ومقاومة اختزال التنوّع إلى وحدة، ومقاومة حصر التعدّد في المُطلق.

الفن كجدليّة فكرية

في التقليد المتشكّك لأركسيلاوس، يمكن فهم الفنّ باعتباره مجالًا تجد فيه "الديالكتيك" تعبيرها المفعم بالحيوية.

لا يسعى الإبداع الفني إلى ترسيخ الحقائق، بل إلى إثارة التساؤلات. فاللّوحة أو القصيدة أو المنحوتة ليست تمثيلاتٍ تُشير إلى مُثُلٍ عليا، بل هي حقولٌ مفتوحةٌ للمعنى تدعو المُشاهد إلى المُشاركة في عملية بناء المعنى.

يتخذ الجمال بُعدًا أخلاقيًا كحالة انفتاح على العالم

يتّسق هذا النّسق الحواري مع الممارسة الفلسفية لأركسيلاوس، الذي استخدم الاستجواب والدّحض كأدواتٍ لتحدّي ادعاءات مُحاوريه. وكما أنّ الفنّ لا يفرض حقيقةً واحدةً، فإنّ الفلسفة الشكّية لا تُقدّم إجاباتٍ قاطعةً، بل تُنمّي وعيًا للتعدّدية والوقتيّة.

يُصبح الفن، بهذا المعنى، نوعًا من التربية الشكّية. بدلًا من تثقيف المشاهد على التعرّف على المثال الأعلى الموجود مسبقًا، فإنّه يدرّبه على القدرة على العيش في حالةٍ من اللّايقين، وتعليق الحكم، وإيجاد الجمال فيما لا يمكن معرفته أو تعريفه بالكامل.

أخلاقيّات الجماليات: الجمال والحياة

يرى أركسيلاوس أنّ الإبوخية ليست مبدأً معرفيًا فحسب، بل هي مثال أخلاقي. يسوّغ تعليق الحكم للفرد بالعيش بتوازنٍ أكبر، متجنبًا شططًا عقائديًّا وعدميّا. في هذا السّياق، يتخذ الجمال بُعدًا أخلاقيًا: لا كشيءٍ يُـمتلك، بل كحالة انفتاحٍ على العالم. يجسّدُ الفنّ، بمقاومته لإغلاق المعنى، هذه الأخلاقيّات القائمة على اللّايقين.

الجمال عند أركسيلاوس هو حدثٌ ينبثق من اللقاء والحوار ومقاومة المُعتقدات

العمل الفنّي الجميل لا يُملي كيفية تأويله؛ بل يدعو المُشاهدَ إلى التفاعل معه بنشاط، ومساءلته، والدخول في حوار معه. هذه العملية لا تُثري التجربة الجمالية فحسب، بل تُنمّي أيضًا روحًا نقديةً تمتدّ إلى جوانب أخرى من الحياة. بهذا المعنى، يُقدّم لنا أركسيلاوس مفهومًا سياسيًا عميقًا للجمال: لا كمثالٍ يرسّخُ النّظام القائم، بل كممارسةٍ تتحدّى هياكل السلطة وتُتيح مساحاتٍ للاختلاف. إنّ الجماليات الشكوكيّة لا تضعُ أسئلةً حول فئات الفنّ التقليدي فحسب، بل تشكّك أيضًا في التسلسل الهرَمي الاجتماعي والمعرفي الذي يدعمها.

الإرث والأهميّة المعاصِرة

لا يُمثل تفكير أركسيلاوس في الجمال والجماليّات والفنّ عقيدةً منهجيةً، بل دعوة لإعادة النظر في هذه الفئات من منظور الشكّ والنقد.

في عالمٍ يديم سعيه إلى اليقين والحقائق المُطلقة، تُقدّم فلسفته المُتشكّكة بديلاً جذريًا: جماليات الانفتاح والتعدّد واللّامكتمل.

الجمال، عند أركسيلاوس، ليس مثالًا أفلاطونيًا أو صفةً موضوعيةً، بل هو حدثٌ ينبثق من اللقاء والحوار ومقاومة المُعتقدات. إنّ إرثه، على الرَّغم من أنّه مجزّأ، يذكّرنا بأنّ الفن لا ينبغي أن يكون ملجأً لليقينيّات، بل مساحة للعيش في الغموض واكتشاف إمكانيات جديدة للوجود والتفكير.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن