بصمات

محمّد عَبْدُه.. وَعِلْمُ الكلام الجديد!

تَحِلُّ هَذِهِ السَّنَةُ الذِّكْرى المِئَةَ وَالعِشْرينَ لِرَحيلِ أَهَمِّ مُفَكِّري الإِصْلاحِ الإِسْلاميِّ الإِمامِ مُحَمَّد عَبْدُه، الَّذِي أَسَّسَ لِتَأْويليَّةٍ جَديدَةٍ لِلتَّقْليدِ الإِسْلاميِّ في مَناحيهِ العَقَديةِ وَالفِقْهِيَّةِ وَالْاِجْتِماعِيَّة.

محمّد عَبْدُه.. وَعِلْمُ الكلام الجديد!

ما يَهُمُّنا هُنا هُوَ كِتابُهُ "رِسالَةُ التَّوْحيدِ" الَّذي يُمْكِنُ اِعْتِبارُهُ بِدايَةَ المُحاوَلاتِ الَّتِي ما زالَتْ مُسْتَمِرَّةً لِوَضْعِ عِلْمِ كَلامٍ جَديدٍ بَديلٍ لِمَدارِسِ الكَلامِ القَديمَةِ الَّتِي تَتَمَحْوَرُ حَوْلَ المَذْهَبَيْنِ الِاِعْتِزاليِّ وَالأَشْعَريّ.

من جوانب نزعته التحديثية الإصلاحية الهامَّة ما يَخُصُّ التركيز على قيمة العقل والتعقّل في ضبط الاعتقاد الصّحيح

وعلى الرَّغْمِ من أَنَّ الكِتابَ يَبْدو لِلْوَهْلَةِ الأُولى كْلاسيكِيًّا تَقْليديًّا في تَعْريفِهِ لِعِلْمِ التَّوْحيدِ وَتَحْديدِهِ لِمَباحِثِهِ المُتَعَلِّقَةِ بِالصِّفاتِ وَالْأَفْعالِ وَالْأَسْماءِ وَالعَدْلِ وَالوَعيد... إِلّا أَنَّ القِراءَةَ العَميقَةَ تَكْشِفُ عَنْ جَوانِبَ أَساسِيَّةٍ من نَزْعَتِهِ التَّحْديثيَّةِ الإِصْلاحِيَّة.

من هَذِهِ الجَوانِبِ الهامَّةِ ما يَخُصُّ التَّرْكيزَ على قيمَةِ العَقْلِ وَالتَّعَقُّلِ في ضَبْطِ الاِعْتِقادِ الصَّحيح. وَمَعَ أَنَّ جُلَّ المُتَكَلِّمينَ أَعْلَنوا بِوُضوحٍ أَنَّ النَّظَرَ العَقْلِيَّ وَاجِبٌ على المُكَلَّفِ وَأَنَّهُ المَحَطَّةُ الأولى في مَسْلَكِ الإيمانِ، بَلْ إِنَّ مُتَأَخِّري الأَشاعِرَةِ (مُنْذُ الغَزاليِّ) وَضَعوا قانونًا لِلتَّأْويلِ يَتَأَسَّسُ على مَنْحِ الأَوْلَوِيَّةِ لِلْعَقْلِ على النَّصِّ في أُمُورِ الْاِعْتِقادِ، إِلّا أَنَّ العَقْلَ كَما فَهِمَهُ الأَقْدَمونَ هُوَ القُوَّةُ الغَريزِيَّةُ الإِدْراكِيَّةُ ذاتُ المَضْمونِ المِعْياريِّ الَّتِي تَكونُ حَاكِمَةً اِبْتِداءً في المَعاييرِ الشَّرْعِيَّةِ (التَّحْسينِ العَقْليِّ لَدى المُعْتَزِلَةِ) أَوْ قادِرَةً بُعْدِيًّا على الكَشْفِ عَنْ حِكْمَةِ النَّصِّ وَمَقْصِدِه (الأَشاعِرَة).

العَقْلُ بِالنِّسْبَةِ لِمُحَمَّد عَبْدُه هُوَ العَقْلُ الذّاتِيُّ التَّجْريبِيُّ الحَديثُ الَّذِي يَتَّسِمُ بِثَلاثِ سِماتٍ كُبْرَى هِيَ: صُدورُهُ عَنِ الإِرادَةِ المُفَكِّرَةِ الواعِيَةِ، وَارْتِباطُهُ بِالطَّبيعَةِ من حَيْثُ هِيَ مَوْضوعُ التَّفْكيرِ وَمَرْجِعِيَّةُ صِحَّةِ الْأَفْكارِ الذّاتِيَّةِ، وَكَوْنِيَّتُهُ المَوْضوعِيَّةُ الَّتِي تَتَجاوَزُ كُلَّ السِّياقاتِ وَالخُصوصِيَّاتِ الثَّقافيَّةِ وَالعَقَدية.

إِنَّهُ "العَقْلُ الديكارْتِيُّ الأَنْوارِيُّ" الجَديدُ تَمامًا على التَّقْليدِ الإِسْلاميّ. وَمن هُنا نُدْرِكُ بُروزَ مَباحِثَ جَديدَةٍ في الفِكْرِ الإِصْلاحيِّ لَمْ تَكُنْ مَعْروفَةً من قَبْلُ، مِثْلَ نَظَرِيَّةِ القانونِ الطَّبيعيِّ الَّتي هِيَ التَّرْجَمَةُ الحَديثَةُ لِنَظَرِيَّةِ الضَّروراتِ وَالمَقاصِدِ الأُصولِيَّةِ القَديمَة. فَفي حينِ كانَتْ تِلْكَ النَّظَرِيَّةُ تَدورُ حَوْلَ مَسالِكِ التَّعْليلِ الَّتي هِيَ من مَباحِثِ القِياسِ لَدى الأُصولِيّينَ، غَدَتْ رُؤْيَةً كامِلَةً لِلْعالَمِ، تُبَيِّنُ فَلْسَفَةَ الدّينِ في التَّشْريعِ في جَوانِبِها الإِنْسانِيَّةِ الكَوْنِيَّة.

كنا نَلْمِسُ في الاِتِّجاهِ نَفْسِهِ إِعادَةَ تَعْريفِ العِلْمِ الَّذي كانَ يَعْنِي لَدى الأَقْدَمينَ المَعْرِفَةَ الصَّحيحَةَ المُسْتَنِدَةَ إلى الدَّليلِ النَّقْليِّ الدَّقيقِ أَوْ مَجْرى العاداتِ وَالتَّجارِبِ، فَأَصْبَحَ يَعْنِي الْأَفْكارَ المَوْضوعِيَّةَ الَّتي تَمَّ التَّحَقُّقُ مِنْها تَجْريبيّا. وَمن ثَمَّ، نُدْرِكُ أَسْبابَ نَشْأَةِ اِتِّجاهِ الإِعْجازِ العِلْميِّ في القُرْآنِ الَّذِي بَدأ مُبَكِّرًا مَعَ تَلامِذَةِ الإِمامِ مُحَمَّد عَبْدُه وَاسْتَمَرَّ من بَعد على نِطاقٍ واسِع.

لَمْ يَعْمَلْ مُحَمَّد عَبْدُه كَثيرًا على وَضْعِ عِلْمِ الكَلامِ الجَديدِ، لَكِنَّهُ دَشَّنَ هَذَا الخَطَّ الَّذي عَرَفَ في السَّنَواتِ الأَخيرَةِ تَنامِيًا مُطَّرِدا.

مسار التّحْديث العَقَدي في السّاحة الإسلاميّة لم يُفضِ بعد إلى نتائج نوعيّة

في العالَمِ السُّنّيِّ، نُشيرُ إلى المُحاوَلَةِ البارِزَةِ لِلْمُفَكِّرِ المِصْريِّ حَسَن حَنَفي، خُصوصًا في عَمَلِهِ المَوْسوعيِّ "مِنَ العَقيدَةِ إلى الثَّوْرَةِ" الَّذي أَعادَ فيهِ صِياغَةَ مَباحِثِ عِلْمِ الكَلامِ الكِلاسيكيِّ في "أُفُقٍ تاريخانيٍّ تَنْويريٍّ" لَمْ يَكُنْ لَهُ تَأْثيرٌ حَقيقِيٌّ في حَقْلِ الدِّراساتِ الإِسْلامِيَّة. وَفي العالَمِ الشّيعيِّ، بَرَزَتْ مُحاوَلاتٌ أَكْثَرُ نُضْجًا لَدى عُلَماءِ دينٍ وَفَلاسِفَةٍ بارِزينَ (إِيرَانِيّينَ خُصوصًا)، تَرَكَّزَتْ في مَجالاتِ اللُّغَةِ الدينِيَّةِ وَالتَّأْويلِيَّةِ التَّاريخِيَّةِ لِلنَّصِّ وَإِبِسْتِمولوجِيا المَعْرِفَةِ الدّينِيَّة... وَمن أَبْرَزِ هَؤُلاءِ عَبْدُ الكَرِيم سُرّوش وَمُصْطَفى مَلِكْيان وَمُجْتَهِدُ شَبَسْتَري... وَقَدْ ساهَمَ المُفَكِّرُ العِراقِيُّ البارِزُ عَبْدُ الجَبارِ الرِّفاعيُّ في بَلْوَرَةِ هَذَا الاِتِّجاهِ وَالتَّعْريفِ بِمُساهَماتِ رُموزِهِ الكُبْرى.

لَيْسَ من هَمِّنا تَقْويمُ تَجارِبِ عِلْمِ الكَلامِ الجَديدِ، الَّتِي تَجاوَزَتْ كَثيرًا خِطابَ الإِمامِ مُحَمَّد عَبْدُه الَّذِي كَانَ مَحْكومًا بِمَرْجِعِيَّةٍ حَداثِيَّةٍ غائِمَةٍ وَلَمْ يَكُنْ مُطَّلِعًا بِقُوَّةٍ على أَدَبِيَّاتِ الإِصْلاحِ الدينِيِّ في جَوانِبِهَا اللّاهوتِيَّةِ الكَثيفَةِ، لَكِنْ حَسْبُنا الإِشارَةُ إلى أَنَّ مَسارَ التَّحْديثِ العَقَدي في السّاحَةِ الإِسْلامِيَّةِ لَمْ يُفْضِ بَعْدُ إلى نَتائِجَ نَوْعِيَّةٍ، لا في دِراسَةِ المَباحِثِ الكَلامِيَّةِ الأَصْلِيَّةِ بِعُيونٍ جَديدَةٍ وَلا في تَأْسيسِ رُؤْيَةٍ كَلامِيَّةٍ جَديدَةٍ وَفْقَ أَوْضاعِ المُسْلِمِ المُعاصِر.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن