هؤلاء بالتأكيد لديهم عُذر في الغضب، وهؤلاء بالتأكيد أيضًا مُحقّون وهُم يمارسون هذه الدرجة القاسية من النّقمة على النفس وعلى الغير... ولكن ما العمل إذا كان هذا هو واقع حال العرب؟ وما العمل إذا كانت الحكومات العربية في الغالبية منها لم تُدرك إلى اللحظة حجْم ما يُحيق بالعرب في الإقليم وفي خارج الإقليم.
القوى الإقليمية لا تُطيق سماع مجرّد خبر عن وجود كيان اسمه "جامعة الدول العربية"
لا عمل والحال هكذا سوى أن نبنيَ على ما تحقّق في القمّة على الرَّغم من أنّه قليل، لأنّ البناء عليه مع شيء من الدأب سوف ينقله من خانة القليل الى مربّع الكثير.
ليس هذا إغراقًا في التفاؤل، ولا هو استغراقٌ في الخيال، ولا هو ذهاب غير محسوبٍ في سماء المثالية، ولكنه نوع من التشبّث بما هو بين أيدينا، لعلّنا نصل من خلاله الى ما هو بعيد عن أيدينا.
إنّني أريد أن نبني على أنّ مجرّد انعقاد القمة في موعدِها شيء لا يخلو من الإيجابية في المُطلق، لأنّ القوى الإقليمية في محيطنا العربي لا تُطيق سماع مجرّد خبرٍ عن وجود كِيانٍ اسمه "جامعة الدول العربية". لا تُطيق ذلك ولا تتحمّله، وتتمنّى لو استطاعت هدم هذا الكيان وإخفاءه من الحياة، ولذلك، فإنّ بقاء الجامعة صامدة مسألة لا بدّ أن نأخذها لنضيف إليها، فنجعل وجودها وجودًا فاعلًا عند أوّل فرصة تلوح أمامنا.
أريد ألّا نستجيب لإغراء الهجوم على الجامعة، لأنّها إذا لم تكن تلبّي طموحنا اليوم، فمن الجائز أن تُلبّيه في الغد، وإذا لم تشأ أن تُلبّيه في الغد ففي بعد الغد. إنّ أداءها لا يكاد يحظى برضا أحد، ولكن عدم الرضا عن الأداء لا يعني إهالة التراب عليها، فهذا سيُسعد الذين لا يريحهم مجرّد وجودها، ولن يفيدنا نحن في المقابل في شيء.
انخفاض درجة التمثيل في حضور قمّة بغداد لم يمنعها من أن تقول إنّ القضية في فلسطين هي قضية كل عربي
أريد أن نبنيَ على أنّ القمّة انعقدت في بغداد، التي تعرّضت وتتعرّض للكثير من محاولات التشويش على عروبتها و"الشوشرة" عليها بكل طريقةٍ ممكنة. بغداد عرضت استضافة القمة واستضافتها بالفعل، ولم نسمع عن شيءٍ عكّر صفو دورة الانعقاد من أوّلها إلى آخرها، وهذا في حد ذاتِه أمر مُضاف لا بد أن نحسبه ضمن القليل الذي تحقق.
بغداد عربية لا شكّ في هذا، وانتماؤها عربي بغير كلامٍ فيه، ولكنّنا في زمنٍ يضرب البديهيّات أمامنا في كل نهار، ونحتاج دائمًا إلى أن نُعيد التأكيد على ما نعرف أنّه بديهي بطبيعته من نوع أنّ بغداد عربية وأنّ انتماءها عربي!
أريد أن نبنيَ على أنّ انخفاض درجة التمثيل في حضور القمّة في غالبيته لم يمنعها من أن تضع القضية في فلسطين على رأس "إعلان بغداد" الذي أصدرته عند انتهاء أعمالها. لم يمنعها انخفاض درجة التمثيل من أن تقول في الإعلان الصادر عنها إنّ القضية في فلسطين هي قضية مركزية لدى كل عربي، وأنّه لا بديل عن "حلّ الدولتيْن".
ما لا يُدرك كله لا يُترك كله وما تحقّق سيأخذنا إلى ما لم يتحقق
هذا بدورِه يقول إنّ حرب العام ونصف العام على الفلسطينيين في قطاع غزّة لم تجعل القضية تموت، بل على العكس جعلها تتمسّك بمكانها في صدر بنود الإعلان الصادر عن القمة، وجعلها تحتفظ بمركزيّتها فلا تتراجع إلى الهامش الضيّق، ولا ينحسر الاهتمام بها، ولا تفقد الحيوية التي عاشت بها على مدى عقود.
أريد أن نبنيَ على هذا كله على الرَّغم من أنّه قليل، وأريد أن نبنيَ على قاعدة أنّ ما لا يُدرك كله لا يُترك كله، وأريد ألّا نفقد الأمل لأنه أقوى سلاح يمكن أن يكون في يد المؤمن بأي قضية، فضلًا عن أن تكون هذه القضية عادلة.
ما لم نلحق به في قمّة بغداد نستطيع أن ندركه في القمّة التالية إذا بقي الأمل، وما تحقّق فيها سيأخذنا إلى ما لم يتحقق، لأنّ هذا هو منطق الحياة.
(خاص "عروبة 22")