صحافة

ماذا حول إعادة الإعمار في سوريا؟

موفق نيربية

المشاركة
ماذا حول إعادة الإعمار في سوريا؟

لا بدّ أن خبر الموسم هو إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، رفع العقوبات عن سوريا، والتصديق على ذلك بالاجتماع مع الرئيس الشرع على هامش القمة الخليجية، وبوجود وليّ العهد السعودي. يعطي هذا الخبر دفعة قوية لمعنويات السوريين، الذين أنهكتهم وما زالت تلك العقوبات، التي كانت بدورها سبباً في إضعاف حكم الاستبداد السابق، إلى حدّ كبير ونوعي.

وقبل ذلك كان قد لفت الانتباه بقوة ما تردّد من أنباء غير مؤكّدة، عن أن الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع يحمل مشروعاً لإعادة بناء بلاده، يستوحي مشروع مارشال، الذي قادته وموّلته الولايات المتحدة، لإعادة بناء أوروبا الغربية، وألمانيا خصوصاً، حتى تستطيع الوقوف في وجه الشيوعية والاتحاد السوفييتي آنذاك، وضمن إطار الحلف الأطلسي الجديد.

لا توجد مؤشّرات بعد على استعداد الولايات المتّحدة لكل ذلك الطموح، وهي تنسحب بالتدريج، وربّما جزئياً من أوروبا، ومن الشرق الأوسط أيضاً، لأنها لا تستطيع حمل عدة بطيخات بيدها، وهي تواجه الصين وحلفاءها والمتوجهين نحوها. لن تتخلّى عن الشرق الأوسط تماماً، لكنّها لن تقبل بدفع فاتورة باهظة بكلّ أقسامها، انطلاقاً من فكرة أن سوريا مركز استراتيجي قادر على ضمان وضع أفضل لموازين القوى في العالم المقبل، لكنّ الاستلهام من أوروبا القديمة والجديدة ربّما يكون أضمن، أو على الأقلّ أكثر وأسرع استجابة لأوضاع جيرانها، الذين أنهكوها بمهاجريهم وأزماتهم المتوالدة.

في مارس الماضي حثّ البرلمان الأوروبي، الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء على دعم القوى التي تقود العملية الانتقالية السورية، كما دعا دمشق إلى إنهاء تحالفاتها التاريخية مع طهران وموسكو، كذلك دعا مفوضيّته والدول الأعضاء في الاتّحاد الأوروبي إلى مساعدة السلطات السورية في توحيد البلاد وإعادة إعمارها، بعد الإشادة بشجاعة الشعب السوري وكرامته وصموده. ذلك الاتّحاد نفسه، أو سلفه، كان قد انشغل لسنوات في محاولة تأسيس شراكة أوروبية سورية، بالتوازي مع انشغال البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة بالتوازي معه…

وبعد دراسات ونقاشات طويلة وأطنان من ورق البحث والدراسة، فقد الطرفان اهتمامهما، بعد أن أكّدا أن الإصلاح والشراكة والتحديث كلّها مستحيلة، من دون سيادة القانون واستقلال القضاء، ومن دون وجود الحرّيات الأساسية، مع الانتهاء – يومها- من حالة الطوارئ المستدامة، ووضع أسس إنهاء انتعاش الفساد المستشري، حتى أصبح هو النظام ذاته. كان يُنظر إلى ذلك كجوهر يكمل اللازم ماديّاً لتشجيع الاستثمار وتأمينه بالبنية التحتية والقوانين الحديثة والأنظمة والبنية المصرفية، وبالأمن والأمان أولاً. ودفع مماطلة النظام إلى ذلك اليأس الأوروبي والأممي، الأمر الذي أسهم بدوره في أن يصل السوريون لاحقاً إلى حالة صالحة لاستنبات ثورة في ربيع 2011.

حالياً، تحتاج سوريا إلى ورشة إنعاش أو إسعاف لن تقدر على الانتظار طويلاً، وتحتاج إلى التعافي المبكر، الذي قد تساعد عليه نوعياً عملية رفع العقوبات، بتحريرها لإمكانيات السوريين أنفسهم، وإمكانيات غيرهم على مساعدتهم، لكنّها تحتاج كذلك إلى تعبيد الطريق لإعادة الإعمار بعد الدمار الرهيب الذي حدث، في كلّ شيء: من البنية الإدارية للدولة، إلى التعليم والقضاء، إلى هجرة العقول، إلى خراب المسكن وتراجع مستوى المأكل، ثمّ البطالة الكبيرة التي كانت، وأصبحت هائلة بعد سقوط النظام و"صَرف" الجيش والشرطة وجزء كبير من شاغليّ الوظائف في الدولة، و"تصفير" الاحتياطيّ، حتى العجز عن المدفوعات البسيطة جداً الضرورية لاستعادة الناس قدراتهم على العمل في اليوم التالي.

والعالم في حالة انشغال بقضايا أكثر أهمّية، كالحرب التجارية وتعديلات النظام الدولي وحرب أوكرانيا، إضافة إلى حرب غزّة، التي أخذتنا فيها إسرائيل – وحماس – إلى دوّامة سموتريتش وبن غفير ونتنياهو وترامب. وليس من أفق واضح لمستقبل إعادة إعمار سوريا، مع تركيبة التغيير السياسي الذي حصل فيها، وهو العامل الأهم في تقرير مستقبل البلاد عملياً. لا بأس هنا أيضاً من طرح بعض الأفكار التي يتدارسها الاتّحاد الأوروبي بشأن مركز اهتمامه في أوكرانيا، ومستقبلها بعد الحرب، للاستنارة والقياس وحسب، من دون نقل ميكانيكي بين الحالتين. وهنالك عدة مبادئ ضرورية تنبغي مراعاتها عندما تتوقف الحرب ويبدأ استحقاق إعادة الإعمار:

أولها، أنه يجب أن تصبح أوكرانيا ديمقراطية ليبرالية متكاملة الأركان، مع جميع الضمانات المؤسسية للديمقراطية. وثانيها، أنه لحماية هذا التوجه، ونظرا لأن أوكرانيا أصبحت مركز ثقل الحرب الباردة الجديدة في العالم بين الديمقراطية والاستبداد، فيجب أن تصبح أوكرانيا عضوا كامل العضوية في الاتحاد الأوروبي. وثالثها، أنه يجب الاعتراف بدور الأوكرانيين في هذه العملية؛ بعد أن أثاروا إعجاب العالم بصمودهم، أمام القوة الروسية الساحقة، ودفاعهم عن بلادهم وحريّتهم وطريقتهم في الحياة، ولا بدّ أن ذلك المسار قد عمّق نضجهم السياسي وقدرتهم على الإصلاح والتطوير. من الضروري بالطبع تشجيع التدفّقات المالية والاستثمارات الاقتصادية والمساعدة الإدارية، ولكن دور الأوكرانيين أنفسهم، دور حاسم أيضاً، ولا يقلّل التكاليف على الأوروبيين وحسب، بل يشجّعهم على أن جهودهم تذهب إلى أرض خصبة ومنتجة.

ترى موجزات التجربة الدولية، أن نجاح إعادة بناء الدولة – بعد صراع أو كارثة أو فشل نظام ـ يعتمد على عدة عوامل مترابطة، منها تنفيذ سياسات لتحفيز النمو الاقتصادي، بما في ذلك الاستثمار في القطاعات الرئيسية، وخلق فرص عمل ودعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة لتحسين سبل العيش، إضافة إلى توفير الموارد المالية والمساعدات الدولية، لإعادة بناء البنية التحتية والخدمات. يحتاج ذلك إلى إعادة بناء البنية التحتية الأكثر حيوية، فما بعدها، كالنقل والطرق والاتصالات والصحة ونظام التعليم؛ والاستثمار في بنية تحتية مستدامة وقادرة على الصمود لمواجهة الصدمات المستقبلية. يحتاج إلى تعاون جدي مع المنظمات الدولية لتأمين الدعم الفني والمالي.

من الضروري أيضاً ضمان تدفّق المساعدات الإنسانية والخدمات الصحية، مع وجود سياسات استراتيجية بعيدة الأمد، لا تحجب أهميتها الحاجات الإسعافية المستعجلة. ذلك كله معروف تقريباً ولا يعترض عليه الحكام الانتقاليّون عادة، أو يعرقلونه، أو ربّما كان مجرّد "مكروه" لدى بعضهم، لكنّ ذلك سيكون صعب الوصول إلى غايته من دون الاستقرار السياسي والحوكمة، ومن دون الشفافية والمساءلة، والمبادرة إلى المشاركة في العملية السياسية بكلّ مراحلها. وتكون الشرعية منقوصة ومشوّهة من غير ذلك جزئياً أو كلياً.

ليس هنالك مسار مضمون من دون استعادة الأمن والنظام العام لضمان حماية المواطنين والممتلكات، وتشكيل أنظمة إنفاذ قانون وقضاء فعالة لدعم العدالة وحقوق الإنسان.. مع الموضوع الحسّاس- ولكن الجوهري- المتعلق بنزع سلاح المقاتلين السابقين، وإعادة إدماجهم لمنع تجدد العنف وقلب المسار على أعقابه من جديد. ولن يكون ذلك ممكناً من دون جيش متماسك ومحايد ومحترف لا يأتي بـ"الترقيع" والترضيات.. إضافة إلى جهاز أمني رفيع التدريب ومتقدّم، ومحايد أيضاً. ذلك كله صعب جداً في سوريا. هناك من هو على استعداد له في السلطة مع إرادة مخلصة أو مضطرة، وهناك من يظن أن الأمور مؤقتة وستستعيد مسارها "الطبيعي" قريباً. الأصعب من ذلك هو قدرة السلطة الانتقالية على تحقيق وتسهيل ما يقتضيه تعزيز التماسك الاجتماعي والمصالحة بين مختلف المجموعات الإثنية أو الثقافية والدينية والطائفية.

قذ يتوقّف الأمر على أو يبدأ بالدخول في مسار العدالة الانتقالية، من خلال مأسسته وتأكيد استقلالها القانوني، لأنّها الباب إلى السلم الأهلي، الذي يدمّره الانتقام الكامن والثأر البدائي. تحويل كل تاريخ الاستبداد والإجرام إلى المسار القانوني يمنع تلك المغامرة بالنسيج الاجتماعي، كما حدث في جنوب افريقيا ورواندا والبوسنة والهرسك. يمكن للحروب الأهلية والثورات أو الكوارث الكبرى أن تسرّع تاريخ الشعوب وحركتها باتّجاه مستقبل أفضل وأكثر تقدّماً وعدالة؛ لكنّها تستطيع في ظروف أخرى أن تعيد تلك الشعوب أجيالاً إلى الوراء أيضا!

(القدس العربي)

يتم التصفح الآن