وقت إعلان قيام إسرائيل قبل 77 عاماً، كان عدد سكانها من اليهود نحو 650 ألف نسمة، وقد أصبح هؤلاء طبقاً لإحصاءات 2024 نحو 7.3 ملايين. بهذه المعطيات، يكون يهود هذه الدولة قد حققوا طفرة سكانية بمعدل 11 مرة تقريباً، وهو أمر ما كان له أن يتحقق بمعدل زيادتهم الطبيعي الذي يراوح بين 1.6% و1.8% سنوياً.
هذا المعدل الأخير، يكاد يماثل عموماً نظيره في عالم الغرب، الذي تزعم إسرائيل انتسابها له حضارياً، لكن هذا الزعم لا يتوافق بالمطلق مع حقيقة تمايزها عن دول هذا العالم، لجهة التطور العام لعدد سكانها من اليهود.. بمعنى أن الزيادة السكانية في أي من الدول الغربية، لم تبلغ ما بلغته زيادة اليهود في إسرائيل.. فمن الناحية الكمية البحتة. وبعد تثبيت مختلف العوامل، نلاحظ أنه في الفترة ما بين 1950 و2024 زاد سكان بريطانيا عموماً من 50 إلى 69 مليون نسمة بنسبة 38%، وزاد الفرنسيون من 41 إلى 68.5 مليوناً بنسبة 67%، وزاد الإيطاليون من 46.4 إلى 59 مليوناً بنسبة 28%، وزاد سكان بلجيكا من 8.6 إلى 12 مليوناً بنسبة 39%.. أين معدلات الزيادة في هذه النماذج مما جرى مع اليهود في إسرائيل، الذين زادوا بنسبة 1100%؟!
أيضاً تتفوق طفرة اليهود السكانية في إسرائيل، على مثيلاتها في المحيط العربي، الذي لم تصل معدلات النمو السكاني في أي دولة فيه، إلى ما بلغته هذه الطفرة خلال الفترة ذاتها، وذلك على الرغم من بلوغ معدل الزيادة الطبيعية في بعض هذه الدول مستويات قياسية، أي 3% أو 4% أو أكثر سنوياً. في ضوء بعض تفصيلات التدافع والصراع الدامي على أرض فلسطين، لا يصعب تفسير هذا التفاوت الكبير.. فما كان من المستحيل تحقيقه بمعدلات الخصوبة والزيادة الطبيعية، تمكنت نخب الحكم والسياسة الإسرائيلية من إنجاز جانب كبير منه بعوامل ومنشطات غير طبيعية، لعل أهمها قوانين الهجرة والعودة وما شابه، التي منحت جنسية الدولة لكل يهودي تطأ قدماه البلاد.
ووفقاً لهذه العملية غير المسبوقة في السجلات والتواريخ الديمغرافية للكيانات السياسية الاعتيادية، استقبلت إسرائيل زهاء 3.4 ملايين من يهودها الحاليين، خلال موجات متتالية. فضلاً عن هذه القوانين، لجأت هذه النخب إلى آلية، تبدو في الحقيقة أقل شهرة، لتشجيع النمو السكاني، وقوامها منح امتيازات وعطايا وهبات للأسر اليهودية التي تقبل على التكاثر بأعداد كبيرة.
كل الأساليب الطبيعة وغير الطبيعية، لتكبير الحجر السكاني اليهودي في إسرائيل، تعامدت على، وتوازت مع، سياسات وقف نمو السكان الفلسطينيين الأصليين، بتهجيرهم قسرياً وتدمير عمرانهم أو حتى بإبادتهم جماعياً، التي بلغت بعض ذراها العالية بين يدي جولات الصراع الكبرى في أعوام 1948 - 1949 و1967 و2023 وتوابعها، على النحو الموثق في أدبيات القضية الفلسطينية.
المفارقة المدهشة بالخصوص، أن النمو السكاني للفلسطينيين عموماً يكاد يكون الاستثناء الوحيد، عالمياً وعربياً وشرق أوسطياً، الذي تمكن من مغالبة النموذج الإسرائيلي، وربما تغلب عليه، رغم اعتماد هذا الأخير على الزيادتين الطبيعية وغير الطبيعية! ففي داخل إسرائيل ذاتها، زاد فلسطينيو 48 بنحو 13 مرة، من 165 ألف نسمة عام 1948 إلى 2.1 مليون الآن.
وكم يبدو من اللافت، احتفاظ هذه الشريحة بنسبتها العددية، حتى إنها لم تنقص عن 20% من سكان الدولة منذ نشأتها إلى ساعتنا هذه. لقد حدث هذا الثبات بمحض التطور الطبيعي، وعلى الرغم من إجراءات التحكم والضبط والسيطرة والتضييق، وكذا على الرغم من الزيادة غير الطبيعية للقطاعات اليهودية. ولا يقل عن ذلك مدعاة للتأمل، أن يزداد عدد الفلسطينيين راهناً في فلسطين التاريخية بين النهر والبحر، عن عدد اليهود، بنحو ثلاثمئة ألف نسمة (7.6 ملايين مقابل 7.3 ملايين على التوالي )..
وفي المشهد الدولي العام بات عدد الفلسطينيين عام 2024 نحو 15.2 مليون نسمة، بما يساوي تقريباً عدد يهود العالم داخل إسرائيل وخارجها.. وتقول الحسابات الإحصائية ذات الصلة بأن يهود إسرائيل، يحتاجون الآن إلى مرور 25 عاماً، كي يصلوا إلى عدد الفلسطينيين اليوم!. بلغة الأرقام الجافة، لا تضم "الدولة اليهودية" الآن أكثر من 48% من كتلة يهود العالم.. ويوماً تلو آخر يتزايد عدد المرجفين، حتى بين اليهود أنفسهم، بسقوط الادعاء القائل إن هذه الدولة تمثل الملاذ الآمن لهذه الكتلة، أو أنها تملك مشروعية التمثيل أو التحدث باسم غير الإسرائيليين من مواطنيها.
ويبدو أن الفشل في كسب معركة الأرحام مع الفلسطينيين، داخل فلسطين التاريخية وخارجها، يتصدر قائمة الهواجس التي تقض مضاجع الإسرائيليين.. ويقيناً يمثل الشعور المقبض بهذا الفشل، إحدى أهم كلمات السر في تكثيف الإفراط في الاعتماد على وسائل التهجير القسري والطوعي والإبادة الجماعية، على نحو ما يحدث في غزة أساساً وفي الضفة جزئياً.
وليس عاقلاً ولا قارئاً منصفاً للحقائق، من يظن أن هذه الوسائل، المتقادمة والمجربة، ستفلح في نزع الشوكة السكانية الفلسطينية من حلق إسرائيل، أو في تحقيق الحل النهائي للمعضلة الفلسطينية.
(البيان الإماراتية)