أنموذجنا الاقتصادي اليوم والقائم على النمو اللامحدود والاستهلاك الغير معقلن يقود الكوكب إلى الهاوية، أكثر من 150 سنة من التصنيع والاستهلاك والنمو والتلويث واستنزاف الموارد لم تكن لتمرّ بسلام ودون محاسبة؛ الغليان أو بداية عصر الغليان، هذا ما قاله الأمين العام للأمم المتحدة، مصطلحان مخيفان، صادران عن أسمى هيئة أممية، إذن الأمر جدّ لا هزل فيه.
العالم العربي يغلي، يغلي حقيقةً لا مجازًا، كنا نكرّر هذا المصطلح في كتاباتنا إبّان أحداث 2011، أما اليوم، فالغليان واقع، فماذا أعددنا له، كنا ولا زلنا أكثر الدول تأثّرًا بما يحدث من اختلال للمنظومة المناخية، الهاجس كان حاضرًا، والمنجز كان قاصرًا، شُيدت سدودٌ وقنوات ومحطات تحلية، فهل كانت كافية لتُجنّبنا آثار الغليان، لستُ هنا لأخيفكم، بقدر ما أحاول إيقاظ الوعي وتبديد اللامبالاة.
حصّة الفرد السنوية من المياه تضع المغرب في خانة "الندرة"، وتونس والجزائر في خانة "الفقر المائي"
في بدايات ستينيات القرن الماضي كان متوسط نصيب الفرد من المياه في الدول المغاربية يتجاوز 2500 متر مكعب في السنة، لينحدر إلى 650 سنة 2022، حيث المتوقع أن تنخفض هذه الكمية لأقلّ من 500 متر مكعب بحلول عام 2030 باستثناء موريتانيا، حيث تصل حصّة الفرد السنوية من المياه إلى أكثر من 1700 متر مكعب، وهو ما يضع المغرب في خانة الندرة، وتونس والجزائر في خانة الفقر المائي.
في سنة 2022 بلغ العجز المائي في السدود المغربية %85 جرّاء الجفاف، ويجدر التذكير أنّ المملكة المغربية شهدت تعاقب أكثر من 20 دورة جفاف منذ سنة 1956، تواتر دورات الجفاف دفع إلى التفكير منذ فترة الحماية في استراتيجية لتعبئة وتدبير المياه المتحصّل عليها في الدورات المطيرة وتجنيب المغرب والقطاع الفلاحي على وجه الخصوص تبعات المواسم الجافة الكارثية.
كانت سياسة السدود ترمي إلى تحقيق هذه الغاية، حيث يبلغ عدد السدود اليوم 150 سدًا كبيرًا بطاقة تخزينية تصل إلى 19.1 مليار متر مكعب، هذه الشبكة من السدود كان لها دور كبير في تطوّر إنتاجية أحواض الريّ الكبرى، حيث خلال سنة 2022 ارتفعت المعاملات الزراعية الموجّهة نحو التصدير لتتجاوز ثمانية مليارات دولار، وهو رقم مرشّح للارتفاع على الرغم من الأوضاع المناخية الصعبة التي تجتازها المملكة، في مقابل تراجع الإنتاج الفلاحي البوري وتدهور وضع قطعان الماشية، وهو الأمر الذي كان له وقع سلبي على الأسعار وعلى الأمن الغذائي.
وفي هذا السياق، نسجّل أنّ المملكة المغربية لديها امتياز عدم ارتباط شبكاتها المائية، سواء السطحية أو الجوفية، بالدول المجاورة، وهو الأمر الذي مكّنها من رسم استراتيجياتها المائية بكلّ استقلالية، الأمر الذي لا يتوفّر لدى عدد من الدول العربية التي تشترك في المجاري والشبكات المائية، كدول حوض النيل ودول حوض الفرات ودجلة ودول نهر الأردن وغيرها، هذه الاستقلالية مكّنت المملكة من المضيّ في سياسات توسيع شبكة السدود التي كان لها وقع إيجابي على الفلاحة السقوية، ثم السعي في وقت لاحق إلى خلق شبكة قنوات ربط مائي بين أحواض الريّ، وهي التجربة التي سوف تخلق تضامنًا مائيًا بين الجهات المطيرة والجهات الجافة، وهو ما سيكون له وقع إيجابي على تزويد عدد من المناطق بالماء الصناعي والزراعي والشروب، خاصة محور الرباط ــ الدار البيضاء الذي أصبح يُشكّل ضغطًا كبيرًا على الموارد المائية بالمنطقة.
التعاون المغاربي والعربي والبحث العلمي وتطوير الآليات... لمواجهة تبعات التقلّبات المناخية الاقتصادية والاجتماعية
تدبير الموارد المائية السطحية يواجه اليوم عدّة مشاكل مرتبطة بوضعية السدود "الترمل والطمي"، ووضعية شبكات الريّ وكذلك وضعية شبكة الماء الشروب المتهالكة في بعض المدن والقرى التي تُسهم في تعاظم الهدر، وهو ما يتطلّب التفكير في حلول بديلة لصيانتها، وكذلك التفكير في حلول بديلة لتنويع الموارد المائية وتخفيف الضغط على المياه الجوفية التي استنزفت في مناطق عديدة، عبر تشجيع البحث العلمي ومراجعة الخارطة الزراعية وتطوير شبكات إعادة تدوير المياه العادمة، إلى جانب تحيين النصوص القانونية المؤطّرة لاستعمال الماء بُغية الحد من استنزافه ومحاربة تلوّثه وتفعيل دور شرطة الماء وتنظيم عملية حفر الآبار، ومراجعة التراخيص الممنوحة لعدد من المهن والخدمات المستنزفة لهذه الموارد.
نزعم أنّ تسريع وتيرة الإصلاح، والمرور إلى خلق إطار للتعاون الإقليمي المغاربي والعربي لمواجهة التحديات المرتبطة بندرة المياه، وتشجيع البحث العلمي المشترك وتطوير الآليات المشتركة والمشاريع التضامنية للحد من الهدر ومواجهته، في مقدّمة التوجّهات الكفيلة بتخفيف وطأة التقلّبات المناخية، والمساعدة على مواجهة تبعاتها الاقتصادية والاجتماعية.
(خاص "عروبة 22")