لقد استمرّ تركيز النشاط الاقتصادي في قطاعات خدمية وفلاحية محدودة القيمة المُضافة، وتمركزه الجغرافي في محور طنجة - الدار البيضاء، ما أدّى إلى تعميق الفجْوة المجالية والاقتصادية داخل المملكة. هذا الواقع أفضى إلى ضرورة تشخيص الاختلالات البنيوية التي حالت دون بلوغ الأهداف التنموية المنشودة، وأدّى إلى إطلاق برامج جديدةٍ لدعم المقاولات الناشئة، من قبيل "مقاولتي"، و"فرصة"، و"انطلاقة".
إلّا أنّ هذه المبادرات ركّزت أساسًا على الجانب التمويلي، وأغفلت محورًا أساسيًّا يتمثّل في بناء القدرات وتوفير المواكبة الفعلية للمقاولين، ما ساهم في ارتفاع معدّلات إفلاس المقاولات الجديدة، وعدم تحقّق النتائج المرجوة، على الرَّغم من صدور ميثاق استثماريّ جديد وتخصيص موارد إضافية للدعم الموازي.
أغلب القطاعات الحيوية ظلّت تحت هيمنة الدولة مما أدّى إلى تهميش المبادرة الفردية وغياب الحوافز
يُطرح اليوم سؤال جوهري حول طبيعة الأعطاب البنيوية التي تُعيق تطوّر أداء القطاع الخاص المغربي، وتحدّ من قدرته على مضاعفة نسب خلق الشركات الجديدة وتوسيع مجالات اشتغاله.
للإجابة على هذا السّؤال، تقتضي الضرورة استحضار السياق التاريخي الذي ميّز مسار تطوّر القطاع الخاص في المغرب، حيث إنّ فترة الركود التي عاشها المشهد المقاولاتي منذ الاستقلال وحتّى نهاية ثمانينيّات القرن الماضي، لم تفسح في المجال لنشوء قطاع خاص قوي وفاعل. فقد ظلّت أغلب القطاعات الحيوية تحت هيْمنة الدولة بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، مما أدّى إلى تهميش المبادرة الفردية وغياب الحوافز الكفيلة بتشجيع المغاربة على خوض تجربة الاستثمار في القطاع المُنظّم، مقابل توجيههم بغير قصدٍ نحو الاقتصاد غير المُهيكل الذي لا يخضع للرّقابة ولا للضرائب.
قصور المنظومة التعليمية في ترسيخ ثقافة ريادة الأعمال يُعمّق من الفجوة بين التعليم وسوق الشغل
لقد حال هذا الوضع دون ترسيخ ثقافة مقاولاتية سليمة، وأسهم في تكريس اختلالاتٍ بنيويةٍ لا تزال تحدّ من فعّالية السياسات العمومية إلى اليوم. ويضاف إلى ذلك غياب الالتقائية بين البرامج والمبادرات الموجّهة لتشجيع الاستثمار الخاصّ، إذ أدّى تعدّد المتدخّلين وغياب التنسيق إلى تناقضٍ وتضاربٍ في التوجّهات، ما أفقد هذه السياسات الكثير من فعّاليتها. كما شهدت المرحلة التي تلت سياسات الخوصصة وتحرير الاقتصاد بروز نخبةٍ محدودةٍ من المقاولات الخاصة الكبرى، استفادت من شروطٍ ريعيةٍ مكّنتها من احتكار قطاعاتٍ استراتيجيةٍ، وهو ما ساهم في تشكّل ما بات يُعرف بـ"الريع المقاولاتي".
أدّى هذا الوضع إلى تعطيل آليات التنافسية، خصوصًا في ظلّ قصور أداء المؤسّسات الرقابية، وفي مقدّمتها مجلس المنافسة، الذي أظهر محدوديةً في التصدّي لحالات الاحتكار والتواطؤ بين كبريات الشركات المغربية، ما زاد من تعقيد البيئة الاقتصادية وأضعف جاذبية الاستثمار الوطني.
وفي السياق ذاتِه، يُلاحظ ضعف برامج الدعم والمواكبة الموجّهة للمقاولين الشباب، من حيث محدوديّتها وتركيزها المفرط على الجوانب المالية، من دون إيلاء الاهتمام الكافي لبناء القدرات وتطوير المهارات المقاولاتية. كما يُسجَّل قصور المنظومة التعليمية المغربية في ترسيخ ثقافة ريادة الأعمال وتعزيز الفكر المقاولاتي لدى الأجيال الصاعدة، ممّا يُعمّق من الفجْوة بين التعليم وسوق الشغل.
التحوّل العميق الذي يشهده الاقتصاد العالمي يفرض تكييف الأطر الحالية مع المستجدات التّكنولوجية والرّقمية
تجدر الإشارة أيضًا إلى أنّ مختلف آليات الدعم المُعتمدة، بما في ذلك الإطار القانوني الخاصّ بإنشاء المقاولات ونظام "المقاول الذّاتي"، أضحت مُتجاوزة، سواء بسبب تعقيد المساطر الإدارية أو بسبب محدوديّة جدواها الاقتصادية في نظر المستثمرين الشباب. ويزداد هذا الوضع تأزّمًا في ظلّ التحوّل العميق الذي يشهده الاقتصاد العالمي نحو الرّقمنة والذّكاء الاصطناعي والابتكار، مما يفرض ضرورةً مُلحّةً لإعادة النظر في الأطر الحالية وتكييفها مع المستجدات التّكنولوجية والرّقمية.
أمام هذا الواقع، بات من الضروري والمُلحّ القيام بتدخّلات إصلاحية عاجلة لتصحيح هذه الأعطاب، بخاصّة أنّ المغرب يراهن اليوم على الانتقال نحو نموذجٍ اقتصاديّ جديدٍ يرتكز على الصناعة، والتكنولوجيا، والطاقات المتجدّدة. غير أنّ تحقيق هذا الطموح يبقى رهينًا بتجاوز الإكراهات الراهنة التي تُعرقل انطلاق القطاع المقاولاتي الوطني.
معالجة الإشكاليّات تُشكّل قاعدة لتعاون اقتصادي عربي قادر على إحداث دينامية تنموية مشتركة
وما يُسجَّل في الحالة المغربية يمكن أن يُعمّم، بدرجاتٍ متفاوتة، على باقي الدول العربية، حيث تتقاطع المشاكل البنيوية التي يعرفها القطاع الخاص والمشهد المقاولاتي في هذه الدول، على الرَّغم من تباين السياقات.
من هذا المُنطلق، فإنّ معالجة هذه الإشكاليّات قد تُشكّل قاعدةً لتعاون اقتصادي عربي أكثر عمقًا وفعّالية، قادر على إحداث ديناميّة تنموية مشتركة، وفتح آفاق جديدة نحو أشكال مبتكرة من التكامل والتعاون الاقتصادي بين دول المنطقة.
لقراءة الجزء الأول
(خاص "عروبة 22")