اقتصاد ومال

تعثّر القطاع الخاص في العالم العربي: السياقات التاريخية والتحدّيات البنيوية (1/2)

تعدّدت الأسباب والفشل واحد، عبارة تصلح لتكون مدخلًا مُعبّرًا عن واقع القطاع الخاص في المنطقة العربية، حيث لم تنجح هذه المنظومة في الاضطلاع بدورها المنشود في تنشيط الاستثمار وتحقيق النموّ الاقتصادي المأمول. فقد ساهمت طبيعة الاختيارات السياسية والاقتصادية، التي اعتمدتها العديد من بلدان شمال أفريقيا والشرق الأوسط عقب موجات الاستقلال خلال خمسينيّات وستينيّات القرن الماضي، في إضعاف هذا القطاع وتقويض قدرته على المبادرة والتوسّع.

تعثّر القطاع الخاص في العالم العربي: السياقات التاريخية والتحدّيات البنيوية (1/2)

تبنّت معظم هذه الدول نماذج سياسيةً واقتصاديةً ذات طابع تدخلي، أفسحت المجال أمام هيمنة الدولة على مختلف مفاصل الاقتصاد الوطني. ففي مِصر، ليبيا، والجزائر، تميّزت المرحلة بتوجّهٍ متقاربٍ نحو تأميم الاقتصاد وتقليص التواجد الأجنبي، في إطار السعي إلى بناء منظومةٍ اقتصاديةٍ مستقلّةٍ وقويةٍ، غير خاضعةٍ للتأثيرات الخارجية.

ظلّت المصالح الاقتصادية أسيرة الخلافات السياسية وبقي حُلم السّوق العربية المشتركة مجرّد شعار

هذا النهج، على الرَّغم من وجاهة مبرّراته في حينه، أدّى إلى تجميد دور القطاع الخاص وتهميشه أمام الحضور الطاغي للدولة، وهو ما انسحب أيضًا على تجارب العراق، سوريا، واليمن. غير أنّ اللافت في هذا السّياق هو اختيار المغرب، على الرَّغم من اختلافه السياسي عن هذه البلدان، لمسارٍ اقتصاديّ شبيهٍ من حيث النتائج. فالمملكة، التي أبدت منذ الاستقلال توجهًا ليبيراليًا واضحًا وتحالفت بشكلٍ صريحٍ مع المعسكر الغربي، اعتمدت مع ذلك سياسةً اقتصاديةً أقرب إلى تدخّل الدولة، اتّسمت بتأميم قطاعاتٍ استراتيجيّةٍ مثل الفوسفات، الطاقة، النقل، البنوك، الموانئ، والصناعة. وعلى الرَّغم من إعلانها انفتاحًا اقتصاديًا، فقد ضاق الهامش المُتاح أمام القطاع الخاص الوطني، ما حال دون تطوّره الطبيعي، وأضعف قدرته على التنافسيّة والإبداع. نتيجةً لذلك، بقي هذا القطاع في موقعٍ هامشيّ ضمن المنظومة الاقتصادية الوطنية المغربية، غير قادرٍ على التموْقع كفاعلٍ رئيسيّ في مُعادلة التنمية، بل بات محكومًا بسقفٍ منخفضٍ من الإمكانيات والدعم المؤسّسي، ما كرّس اعتماده على الدولة بدل تحرّره منها، وحال دون قيامه بالدور التنموي المُنتظر منه.

لم يُسهم السّياق العام في بلدان العالم العربي في بروز قطاعٍ خاصّ قويّ ومؤثّر. فقد ظلّت المصالح الاقتصادية أسيرة الخلافات السياسية والتجاذبات الإيديولوجية، وبقي حُلم السّوق العربية المشتركة مجرّد شعارٍ بعيد المنال. وقد ساهم هذا الوضع في تعميق الأزمة الاقتصادية التي شهدتها هذه الدول، بخاصة خلال عقدَي السبعينيّات والثمانينيّات، حيث شهدت معظم القطاعات الاقتصادية تدهورًا ملحوظا.

هيمنة الدولة على معظم القطاعات أسهمت في تسارع وتيرة الاحتقان الاجتماعي

جاء هذا التراجع نتيجة مجموعةٍ من العوامل، في مقدّمتها تآكل اقتصادات الدول العربية بفعل تكاليف خياراتها السياسية الثقيلة، والتي أدخلتها في سلسلة من النّزاعات والصّراعات، مثل حرب الصحراء بين المغرب وجبهة البوليساريو المدعومة من ليبيا والجزائر، والحرب العراقية - الإيرانية، والحروب في منطقة الخليج، والحرب الأهلية في اليمن ولبنان، فضلًا عن الحروب المتكرّرة ضدّ إسرائيل. وقد أدّت هذه الصراعات إلى استنزاف موارد الدول المعنية وأثقلت كاهل ميزانياتها، مما فاقم من هشاشة بنيتها الاقتصادية. إلى جانب ذلك، أسهمت طبيعة تدبير الاقتصاد القائم على هيْمنة الدولة على معظم القطاعات، وسوء توزيع الثروات، في تسارع وتيرة الاحتقان الاجتماعي. فقد أدّت هذه الأوضاع إلى تدهور مستوى المعيشة وانتشار البطالة، مما فجّر موجاتٍ من الاضطرابات الاجتماعية الكبرى في دولٍ مثل مصر، تونس، الجزائر، والمغرب.

أمام هذا الوضع المتأزّم، اضطرّت حكومات المنطقة إلى تبنّي حزمةٍ من الإصلاحات الاقتصادية الهيْكلية، تمثّلت في سياسات الخوصصة، وتحرير القطاعات الاقتصادية، وإعادة تعريف أدوار الدولة ومجالات تدخّلها. وقد أتاح هذا التحوّل نشوء ملامح قطاع خاص في أواخر الثمانينيّات وبداية التسعينيّات، كان الهدف منه تدارك التأخّر التنموي واستعادة التوازن الاقتصادي. غير أنّ هذا المسار، على الرَّغم من أهمّيته، واجه العديد من الأعطاب البنيوية والمؤسّسية، حالت دون تحقيق الأهداف المرجوّة، وأبقت على هشاشة المنظومة الاقتصادية في معظم البلدان العربية.

الأنموذج المغربي: قراءة في السياقات التاريخية

شهدت المملكة المغربية خلال هذه الفترة، على سبيل المثال لا الحصر، واحدةً من أكثر المراحل صعوبةً في تاريخها المعاصر، إذ كانت تخوض حربًا ضروسًا دفاعًا عن وحدتها الترابية. وقد استنزفت هذه الحرب موارد الدولة لأكثر من عقدٍ من الزمن، وجعلت الاقتصاد المغربي رهينًا للديون الخارجية والدعم المالي من بعض الدول الشقيقة. وزاد من حدّة الوضع انهيار أسعار الفوسفات، الذي يُشكّل أحد أعمدة الاقتصاد الوطني، وتدهور الإنتاج الفلاحي بفعل توالي سنوات الجفاف، إلى جانب إفلاس عددٍ كبيرٍ من المقاولات والمؤسّسات العمومية نتيجة سوء التدبير واستشراء الفساد الإداري والمالي.

في ظلّ هذه الظروف المتأزّمة، أعلن العاهل المغربي في بداية الثمانينيّات أنّ البلاد بلغت "مرحلة السّكتة القلبية"، في تعبيرٍ قويّ يعكس خطورة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي كانت تمرّ بها المملكة. وقد شهدت تلك المرحلة اندلاع اضطراباتٍ اجتماعيةٍ حادّة، بخاصّة في مدن الدار البيضاء وفاس ومناطق الشمال، وأسفرت عن سقوط آلاف الضحايا والمُعتقلين، ممّا عمّق من تدهور الأوضاع المعيشية وزاد من هشاشة الوضع الداخلي.

أمام هذا الواقع المتأزّم، اضطرّ المغرب إلى اللجوء إلى المؤسّسات المالية الدولية، طلبًا لقروضٍ تُمكّنه من تجاوز أزماته المتراكمة. غير أنّ هذه القروض كانت مشروطةً باعتماد سياسات إصلاحية صارمة، تضمّنت رفع الدعم عن عددٍ من المواد الأساسية، وخوصصة غالبية المؤسّسات العمومية، وتحرير معظم القطاعات الاقتصادية، مع فتح المجال أمام المبادرة الخاصة، سواء كانت وطنية أو أجنبية. وقد سلك المغرب هذا المسار بتدرّج وحذرٍ شديدٍ، مراعيًا الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية لفئاتٍ واسعةٍ من المجتمع التي كانت تعاني من الفقر والهشاشة، وهو ما جعل وتيرة الإصلاحات بطيئة أحيانًا، ولكنّها وُضعت ضمن منظور استراتيجي يراهن على تحقيق توازنٍ بين ضرورات التقويم الاقتصادي ومتطلّبات الاستقرار الاجتماعي.

أعطاب بنيوية تُعيق تطوّر أداء القطاع الخاص المغربي

لقد سعت المملكة المغربية خلال هذه المرحلة إلى بناء نواةٍ صلبةٍ لقطاعٍ خاصّ وطنيّ مستقل، تجنّبًا لإعادة وضع الاقتصاد تحت هيمنة المستثمرين الأجانب. وفي هذا الإطار، بادرت السلطات العمومية إلى تشجيع الاستثمار الوطني عبر تحفيز الفاعلين الاقتصاديين على تأسيس شركات ومقاولات، من خلال تسهيل الولوج إلى التمويل، وتبسيط إجراءات تأسيس المشاريع، وإرساء منظومة قانونية جديدة، إلى جانب إقرار عدد من الحوافز الضريبية وأنظمة الدعم المختلفة. وقد تُوّجت هذه الجهود بإصدار ميثاق الاستثمار سنة 1998، باعتباره إطارًا مرجعيًا لتنظيم العلاقة بين الدولة والمستثمرين وتحفيز الديناميّة الاقتصادية.

وفي هذا السّياق، أطلقت الدولة مجموعةً من البرامج الموجّهة لدعم وتكوين المقاولين الشباب، رغبة في توسيع قاعدة النشاط المقاولاتي وتحقيق نوعٍ من العدالة المجالية والاقتصادية، إلّا أنّ النتائج المتوخّاة لم تتحقّق بالشكل المطلوب، إذ ظلّ الاقتصاد غير المُهيكل يُهيْمن على أكثر من 70% من النشاط الاقتصادي الوطني. كما لم تُفضِ هذه السياسات إلى تغييرٍ ملموسٍ في البنية المقاولاتية، التي لا تزال تعتمد على نسيج من المقاولات الصغيرة والصغيرة جدًا، من دون تمكّن هذه الأخيرة من التطوّر نحو شركاتٍ كبرى ذات قدرةٍ تنافسيةٍ عالية، مما يُحيلنا إلى معضلة الأعطاب البنيوية التي تُعيق تطوّر أداء القطاع الخاص المغربي، وتحدّ من قدرته على مضاعفة نسب خلق الشركات الجديدة وتوسيع مجالات اشتغاله، وهذا موضوع المقالة القادمة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن