قضايا العرب

"الوجه الآخر" لحرب السودان.. قتل وتهجير ونهب واغتصاب!

فاطمة البدري

المشاركة

فيما تتّجه الأنظار إعلاميًا ودوليًا إلى مسار الحرب الدائرة بين الجنرالين عبد الفتاح البرهان ومحمد حمدان دقلو (المعروف باسم "حميدتي")، وتقدير من سيكون المنتصر بعد جولات طويلة من القتال، ومبادرات السلام الفاشلة، يعيش المدنيون السودانيون، لا سيما غرب دارفور، على وقع جرائم مروّعة يرتكبها أطراف النزاع وخاصة "قوات الدعم السريع" في ظل غياب كلي للإعلام والمنظمات التي تقوم عادةً بتوثيق ما يجري من انتهاكات عسى أن يحاسَب القتلة والمجرمون لو بعد حين.

بعد مضي أكثر من مائة يوم على هذه الحرب كانت الحصيلة في صفوف المدنيين ثقيلة بين قتلى وجرحى ومغتصَبات ونازحين ومدن محروقة بالكامل. ليبدو المشهد وكأنّ ما يجري ليس مجرد حرب بين "جنرالين" من أجل السلطة، بل نتيجة حتمية لتسليح مليشيات مارقة تعوّدت على ارتكاب جرائم مروّعة والإفلات من العقاب.

نجت سليمة (اسم مستعار بناءً على رغبتها) من الموت لكنها لا تشعر أنها على قيد الحياة بعد رحلتها الشاقة والمريرة. وتروي قصّتها بمرارة لـ"عروبة 22"فتقول: "في ليلة مقتل الوالي كان الوضع مخيفًا في الجنينة (غرب دارفور) وقرّرنا الهروب إلى مخيم أدري ولكن اعترض عناصر قوات الدعم السريع طريقنا. أمروا ولداي (18 سنة وما فوق) وزوجي وأشقاءه الثلاثة وجارتي بالوقوف صفًا واحدًا، وأمروني أنا بالوقوف جانبًا وقالوا لي بسخرية استمتعي بقتلهم... أطلقوا النار عليهم تباعا أمام عيني، رأيتهم يهوون الواحد تلو الآخر. كنتُ أموت مع كل رصاصة تُطلق، لا أستطيع وصف بشاعة المشهد. كنتُ أحمل طفلي الصغير الذي كان يبكي بين يدي، فتقدّمت إليهم وطلبتُ منهم أن يأخذوه وتوسلت إليهم أن يقتلوني، فلم أكن أريد العيش بكل هذا الوجع. صرختُ بأعلى صوتي وبكيتُ بكلّ حرقة ورجوتهم أن يطلقوا عليّ الرصاص، لكنهم رفضوا واكتفوا بضربي بشدة برأس البندقية، كانوا يريدون تعذيبي بتركي على قيد الحياة مع كل هذا الألم".

وصلت سليمة محمّلة بحزن كبير رفقة طفلها إلى مخيم أدري وهي تحلم في كل يوم أن توافيها المنية علّها ترتاح من ألم الرحلة البشعة.

وسليمة ليست الوحيدة التي عاشت هذه الأوقات الصعبة... زمرّد أم لـ5 أطفال، (ولدان و3 بنات)، استطاعت أن تمنع قتل أبنائها الذكور بأعجوبة عندما داهمتهم قوات الدعم السريع.

تقول لـ"عروبة 22": "أغاروا علينا صباحًا طرقوا الباب بقوة وكنت خائفة فلم أفتح، وسارعتُ لإخفاء ولداي، أحدهم وضعته تحت الأغطية الصوفية والآخر تحت السرير، وجلستُ أدعو الله أن لا يعثروا عليهما. في تلك الأثناء باشروا في إطلاق النار على الباب فخرجت لهم جدة الأطفال وأمروها بالابتعاد والدخول أمامهم مردّدين "أنتم السود والمساليت سنذيقكم الأمرّين، إذهبوا إلى التشاد هذه أرضنا"... ثم طافوا في البيت يبحثون عن الرجال والذكور عمومًا. وسألوا مرارًا "أين زوجك؟" قلت لهم إنه قُتل، فردّ أحدهم "بركة أنه مات"... سألوا عن أولادي فقلت لديّ بناتي اللاتي أمامكم فقط، فتقدّم أحدهم ورفع ثوب إحدى بناتي ليتأكد أنها أنثى". بعد أن يئسوا من وجود ذكور في البيت بحثوا عن أشياء لنهبها، وعندما انتهوا اختلفوا بين قتلهنّ أو تركهنّ... لينطق أحدهم "قتلنا الكثير من المساليت لندعهنّ إنهنّ نساء".

والمساليت هم مجموعة من السودانيين الأفارقة يشكلون الأغلبية في غرب دارفور (60 بالمئة) ويسيطرون على مجمل الأراضي في المنطقة، ولكن في أواخر تسعينات القرن الماضي منح عمر البشير المجموعة العربية قوة سياسية وعسكرية مكّنتهم من افتكاك الأراضي من المساليت. وكان ذلك التغيير بدايةً لحروب دموية بين الجانبين. وفي تشرين الثاني 2020 تم التوصل إلى اتفاق السلام في جوبا (عاصمة جنوب السودان) نصّ على تسليم الأراضي التي تحتلّها الأطراف العربية إلى أصحابها الأصليين بالإضافة إلى معاقبة مرتكبي الجرائم. كان ذلك صادمًا للمجموعات العربية التي لم ترغب بالتخلي عن تلك الامتيازات ولعلّ هذا ما فسّر العنف الكبير الذي ارتُكب ضد المساليت وغيرهم من المجموعات غير العربية غرب دارفور، وفي الحرب الأخيرة على يد قوات الدعم السريع والمليشيات العربية الحليفة لها.

وتضيف زمرّد: "بعد مغادرتهم هربت وأبنائي باتجاه التشاد كانت الجثث تملأ الطريق، جثث رجال موثوقي الأيدي والأرجل ووجوههم إلى الأرض وجثث أخرى بدأت تتعفّن، كان مشهدًا مريعًا بالكاد استطعنا المرور بالطريق من هول ما رأينا. وكان الجنجويد يتمركزون في الطريق يفتشون كلّ من يمرّ سواء على الاقدام أو بأي وسيلة نقل لنهب كل ما نحمله. فتشوا كل جزء من أجسادنا ويطلبون منكِ أن تنزعي ثوبك مع الشتم والإهانة".

لم يجدوا شيئًا بحوزتهم، فقاموا بجلدهم مهدّدين بتصفيتهم، ليصلوا إلى "مخيم أدري" بعد يوم كامل من المشي على الأقدام: "الآن لا نملك شيئًا والحرّ الشديد متعب، لكن لا صوت للرصاص، الحمدلله على الأمن". ثم استدركت: "لكنّ الجوع قاسٍ، فمنذ شهر لا نملك شيئًا، نطلب فقط ما يسدّ الرمق من الجيران"، وأجهشت بالبكاء وصمتت.

منذ بداية الحرب في أبريل/نيسان الماضي اضطرّ ثلاثة ملايين سوداني للنزوح من ديارهم بسبب القتال الدائر، بينهم 2.4 مليون نزحوا داخليًا، بينما عبر أكثر من 730 ألفًا الحدود إلى بلدان مجاورة، منهم 300 ألف نازح من غرب دافور وحدها حسب تقديرات الأمم المتحدة والعفو الدولية.

وعالجت منظمة الصحة العالمية في تشاد، التي تستقبل نحو 2500 شخصًا يوميًا، أكثر من 1400 جريح. تضمّن العلاج إجراء أكثر من 60 عملية جراحية كبرى، وحوالى 70 بالمئة من هذه الحالات ناجمة عن طلقات نارية.

فاطمة إحدى الناجيات أيضًا من حجيم مدينة الجنينة الذي غادرته حافية القدمين مع طفليها باتجاه "مخيم أدري" بعد أن قُتل والدها قبل يلحق بها زوجها وبقية أطفالها.

تقول: "كان اليوم الموالي لمقتل والي الجنينة، مخيفًا، القتل في كل مكان وأصوات الرصاص من كل جهة، رأينا رجالًا تُذبح ونساءً وأطفالًا تصرخ في الطرقات، قتلوا والدي.. كان وضعًا مروّعًا إلى درجة أننا نفكر فقط في النجاة حتى أنني لم أفكر في البحث عن ولداي وزوجي الذين لم أكن أعلم مكانهم، هدف الجميع الوحيد حينها هو النجاة من هذا الموت المحقّق. بلا تردّد أخذتُ طفلاي اللذين ظلّا معي في المنزل، كنا نركض بأعداد كبيرة حفاة باتجاه التشاد، كنا تمامًا كالحيوانات وهي تركض إلى الحظيرة، الذخائر تسقط فوقنا، والرصاص حولنا والحرائق في كل مكان، مات البعض وجُرح البعض ونجا البعض".

نجت فاطمة مع طفليها من الموت، ولحقها بعد ذلك زوجها وبقية أطفالها بعد رحلة شاقة إلى "مخيم أدري"، لكن مات الكثير من عائلتها وصديقتها المقرّبة.

وتؤكد بعض التقارير ما ذهبت إليه فاطمة بشأن الحرائق والقتلى في غرب دارفور بما في ذلك الجنينة. إذ أظهرت بيانات الأقمار الصناعية دمارًا هائلًا جراء الحرائق التي أضرمتها قوات الدعم السريع والمليشيات الحليفة لها في منازل وممتلكات ولاية غرب دارفور منذ أبريل/نيسان ليبلغ عدد البلدات أو القرى التي تم حرقها وتدميرها بالكامل 7، وهي كل من حبيلة كناري ومجمري ومستري ومولي ومورني وجوكور وسربا، بالإضافة إلى إضرام النيران في عشرات المواقع التي تأوي النازحين وبعض الأحياء في الجنينة، عاصمة الولاية، وذلك حسب هيومن رايتس واتش.

كما أفادت نقابة المحامين في دارفور في الـ31 من يوليو الماضي أن ما لا يقل عن 200 شخص قُتلوا خلال الهجمات التي شنّتها قوات الدعم السريع ومسلحون متحالفون معها على منطقة سربا ومخيم أبو سروج للنازحين في المنطقة نفسها خلال ثلاثة أيام فقط.

ولم تتوقف الانتهاكات في حدود قتل الذكور بشكل خاص والتهجير ونهب الممتلكات وحرقها، بل كانت النساء أيضًا في مرمى جرائم هذه القوات. إذ تعرّضت عشرات النساء والفتيات، بعضهن لا يتجاوز أعمارهن 12 عامًا، للعنف الجنسي، بما في ذلك الاغتصاب، على أيدي عناصر من الأطراف المتحاربة أغلبها من الدعم السريع. واحتُجز بعضهن لعدة أيام في ظروف من الاستعباد الجنسي.

تقول الدكتورة إيثار الخليل المتواجدة ضمن مجموعة من الأطباء المتطوعين للعناية باللاجئين في "مخيم أدري" على الحدود التشادية لـ"عروبة 22": "من خلال معاينتي كطبيبة للنساء الناجيات من هول الحرب اكتشفتُ أنّ النساء من عمر الـ13 حتى الـ50 سنة قد تعرّضن لعمليات اغتصاب وحشية، الكثير منهن في ظل نقص المعدات الطبية والأدوية بالمخيم مهددات بالإصابة ببعض الأمراض المنقولة جنسيًا، كالزهري والإيدز وحدوث التهابات حادة جدًا تؤدي آليًا للعقم. وتمتنع الكثير من الفتيات عن الحديث عن تعرّضها للاغتصاب لأسباب اجتماعية طبعًا، ولهذا أصبحتُ أجري فحص الحمل مباشرةً، وفعلًا اكتشفتُ حمل عدد كبير من الفتيات الصغيرات".

وكانت الأمم المتحدة قد أعلنت على لسان فولكر ترك مفوض حقوق الإنسان، أن أكثر من 50 امرأة وفتاة تعرّضن للعنف الجنسي والاغتصاب، وأن جميع الحالات تقريبًا كانت بفعل قوات الدعم السريع. في حين ترجّح ناشطات سودانيات أنّ العدد أكثر من ذلك بكثير.

وهذه ليست المرة الأولى التي توجّه فيها أصابع الاتهام لقوات الدعم السريع بالضلوع في ارتكاب جرائم الاغتصاب، فخلال مشاركتها في الحرب في إقليم دارفور في عهد الرئيس المعزول عمر البشير اتّهمت بالضلوع في هذه الجرائم. وخلال قيامها رفقة قوات نظامية أخرى بفضّ اعتصام المحتجين بالخرطوم في يونيو 2019 تم اتهامها أيضًا باعتقال فتيات واغتصابهن لترهيب المحتجّين وإجبارهم على إخلاء مكانهم. كما دأبت السلطات السودانية والميليشيات المتحالفة معها على الاغتصاب والعنف الجنسي كسلاح حرب متعمّد في دارفور منذ أوائل عام 2000.

وقد سمح الإفلات الدائم من العقاب للمشتبه في ارتكابهم جرائم حرب في دارفور بالبقاء في المناصب القيادية، وهو العامل ذاته الذي ساهم في حدوث مستويات خطيرة من العنف في أغلب مدن السودان وبشكل خاص في العاصمة الخرطوم وغرب دافور.


(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن