أثار هجوم المتحف اليهودي في العاصمة الأميركية، واشنطن، الذي أدى لمقتل موظفيْن اثنيْن تابعيْن للسفارة الإسرائيلية، موجة من التساؤلات بشأن توقيته وآثاره مع استمرار حرب غزّة، لاسيما ان العملية تزامنت مع "العزلة" التي تواجهها اسرائيل عالميًا والخطوات الأوروبية غير المسبوقة لمعاقبة تل أبيب نتيجة لارتكابها جرائم حرب وإبادة. وفي وقت كان رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو يواجه ضغوطًا داخلية وخارجية متزايدة، جاءت هذه الحادثة ليوظفها الاخير في معركة "المظلومية" الهادفة الى تشويه الحقائق وقلبها وربطها بمعاداة السامية واستخدامها كحجة لتوجيه اتهامات لقادة أوروبيين بالمسؤولية عن التحريض على الهجوم.
ولا يترك نتنياهو اي مناسبة دون ان يعيد خطته المرسومة لغزّة سلفًا، دون الالتفات لمطالب الشارع الاسرائيلي المطالب بصفقة مع "حماس" تؤدي الى اطلاق سراح الرهائن كما يرفض الانصياع للمطالب الغربية والمناشدات الأممية لوقف العمليات العسكرية التي تزيد من معاناة سكان القطاع المنكوب الذين شهدوا أمس الخميس للمرة الاولى على اعادة تشغيل بعض الافران مع بدء توزيع المساعدات الانسانية "الشحيحة" التي سمحت اسرائيل بإدخالها بغية استكمال حربها وتوسيع نطاق سيطرتها والتخفيف من حجم الانتقادات الموجهة اليها دوليًا. دون ان ننسى ان عملية التوزيع هذه آنية ريثما تبدأ مؤسسة "اغاثة غزة"، المدعومة من الولايات المتحدة والتي تم الاعلان عنها حديثًا، توصيل المساعدات في الايام المقبلة.
هذا وتواجه الخطة انتقادات من جانب الامم المتحدة حيث اعتبر الأمين العام أنطونيو غوتيريش بأنها تهدد "بمزيد من القيود على المساعدات والسيطرة على كل سعرة حرارية وحبة دقيق". وتجد هذه الاعتراضات مبررات منطقية خصوصًا انها تأتي في وقت تسعى فيه القوات الاسرائيلية الى احكام سيطرتها على ما يقارب 70 الى 75٪ من أراضي القطاع وتهجير السكان وعزلهم في نقاط معينة وهذا ما صرح به نتيناهو الذي قال "إن بناء مناطق التوزيع الأولى سيكتمل خلال الأيام المقبلة وإن إسرائيل تنوي إقامة مناطق آمنة واسعة جنوب غزة". وأضاف "سينتقل السكان الفلسطينيون إلى هناك حفاظًا على سلامتهم، بينما نخوض معارك في مناطق أخرى". وبالتالي تضمن الخطة الحالية تفريغ شمال القطاع من السكان بالكامل ونقلهم للجنوب في اطار خطة التهجير التي يعتبرها نتنياهو حجر الاساس في اي خطة لوقف النار.
وبالعودة الى "هجوم واشنطن" الذي استغله نتنياهو لتوظيف سرديته بعدما شنّ هجومًا على فرنسا وبريطانيا وكندا، متهمًا اياهم بأنهم "يريدون من إسرائيل أن تستسلم وأن تقبل ببقاء جيش "حماس" وأن يعيدوا تنظيم صفوفهم وأن يكرروا مجزرة 7 تشرين الأول /أكتوبر مرارًا وتكرارًا". في وقت حمّل وزير خارجيته جدعون ساعر القادة الأوروبيين جزءًا من المسؤولية عن الحادث بعدما ربط بين "التحريض المعادي للسامية والمعادي لإسرائيل وبين هذه الجريمة". من جهتها، سارعت فرنسا إلى إعلان رفضها التصريحات الإسرائيلية التي وصفتها بالـ"مشينة وغير المبررة". هذا وتوالت ردود الفعل المنددة بما حدث حيث دعا الرئيس الأميركي دونالد ترامب الى ضرورة ان "تنتهي جرائم القتل المروعة في واشنطن، والمدفوعة بوضوح بمعاداة السامية"، على حدّ قوله.
ونفذ الاميركي إلياس رودريغيز عملية القتل مطلقًا عدة عبارات داعمة لفلسطين اثناء القاء القبض عليه، ورغم ان الحادثة وضعتها الشرطة الاميركية في اطار "العمل الفردي" الا انها لا تزال تحقق في منطلقاتها وخلفياتها بينما قررت تل أبيب رفع مستوى حماية بعثاتها وسفاراتها في الخارج. ولن تدخر اسرائيل في قادم الايام اي جهدًا من اجل تبرير حربها على غزة موظفة الحادثة ضمن سياقات دعم خطة التهجير ورفض اي وقف لاطلاق النار ما لم يتزامن مع نزع سلاح "حماس" ونفي قيادتها الى الخارج، خاصة ان نتنياهو يستمر بالتعنت والتمسك بمواقفه حيث اعلن أمس عن تعيين الجنرال ديفيد زيني رئيسًا جديدًا لجهاز الأمن الداخلي (الشين بيت) متحديًا قرار المدعية العامة للدولة بمنعه من ذلك.
هذه الاحداث المتسارعة على الجبهة الغزاوية تترافق مع استكمال الرئيس الفلسطيني محمود عباس زيارته الى لبنان حيث اجرى لقاءات شملت رئيس الحكومة نواف سلام ورئيس مجلس النواب نبيه بري. وبات من الواضح ان ملف السلاح الفلسطيني داخل المخيمات وخارجها حسم أمره بعد وجود قرار لبناني رسمي ببسط الدولة سيطرتها على كامل اراضيها. من جهة ثانية، يواصل العدو الاسرائيلي اعتداءاته حيث شنّ غارات مكثفة على جنوب لبنان وشرقه وصفتها "الوكالة الوطنية للاعلام" بأنها الأعنف في بعض المناطق الجنوبية منذ انتهاء عدوان الـ66 يومًا. ومنذ توقيع اتفاق وقف النار تدأب اسرائيل على خرقه بشكل يومي ومتكرر بحجة "القضاء على "حزب الله" وعناصره ومنشآته القتالية". في اطار متّصل، أعلنت قيادة الجيش اللبناني أنها باشرت تنفيذ تدابير أمنيّة استعدادًا للمرحلة الرابعة من الانتخابات البلدية والاختيارية المقررة غدًا، السبت، في محافظتَي لبنان الجنوبي والنبطية.
في غضون ذلك، تصاعدت وتيرة الخلافات بين واشنطن وطهران بعدما اكد وزير الخارجية الايراني عباس عراقجي بأنه "لن يكون هناك اتفاق مع الولايات المتحدة بشأن البرنامج النووي من دون حصولها على ضمانات"، مقرًا بوجود "خلافات جوهرية" خاصة بما يتعلق بحق بلاده بتخصيب اليورانيوم الذي أصبح عقبة رئيسية. وتجري الجولة الخامسة من المحادثات بين الجانبين الأميركي والإيراني في العاصمة الإيطالية روما، الجمعة، بواسطة سلطنة عُمان وسط اجواء "ملبدة بالغيوم" بانتظار ما ستحمله من معطيات. وتأمل تل ابيب فشل المفاوضات لشن ضربات عسكرية على ايران خاصة انها لا تدفع نحو الحلول الديبلوماسية بل تفضل التعامل "العسكري" وهو ما يرفضه الرئيس الاميركي الذي يجدد في كل تصريح بأن الامور تسير في المسار الصحيح.
ويتوقع ترامب ان تكون طهران "اكثر عقلانية" وتجنح نحو التوصل الى اتفاق خاصة ان ظروفها الراهنة لا تسمح لها برفع سقف المواجهة. ومن المعروف ان ايران لطالما استخدمت اوراقها الاقليمية على اي طاولة للمباحثات الا انها اليوم تواجه تغيرات جذرية بعد ما اصاب محورها في الشرق الاوسط وتحديدًا في لبنان بعد الحرب الاسرائيلية على "حزب الله" كما سقوط النظام السوري الذي شكل لها رافعة وصولًا الى حياد الفصائل العراقية وسعيها إلى تجنيب بغداد الدخول بحرب جديدة. حتى ان جماعة "الحوثي"، المدعومة ايرانيًا، توصلت الى تفاهمات مع الجانب الاميركي ادى الى وقف العمليات العسكرية. ما يعني ان مسار الديبلوماسية والتفاوض سيكون في صلب الاهتمامات الايرانية حتى لو تعالت الأصوات المهددة بالفشل أو التراجع.
على المقلب الآخر، أعلنت واشنطن أنها ستفرض عقوبات على السودان بعد توصلها إلى خلاصة مفادها أن الجيش الرسمي هناك استخدم أسلحة كيميائية عام 2024 خلال صراعه مع قوات الدعم السريع. وقالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الاميركية تامي بروس أن العقوبات ستتضمن قيودًا على الصادرات الأميركية وخطوط الائتمان الحكومية الأميركية، وستدخل حيّز التنفيذ في 6 حزيران/ يونيو بعد إخطار الكونغرس. بدورها، رفضت الخرطوم هذه الاتهامات واضعة اياها في اطار "الابتزاز السياسي وتزييف الحقائق". وقالت، على لسان المتحدث باسم الحكومة السودانية وزير الثقافة والإعلام خالد الإعيسر، إن الإدارة الأميركية "تسعى إلى تضليل الرأي العام وتوفير غطاء سياسي لجهات فقدت شرعيتها وارتكبت جرائم ضد السودانيين"، على حدّ تعبيره. ومنذ منتصف نيسان/ أبريل 2023 يخوض السودان حربًا دموية طاحنة خلّفت أكثر من 20 ألف قتيل ونحو 15 مليون نازح ولاجئ، وفق الأمم المتحدة والسلطات المحلية.
الواقع العربي والاقليمي كان حاضرًا في جولة الصحف العربية الصادرة اليوم. وقد اخترنا لكم من بين أبرز التحليلات والافتتاحيات التالي:
اشارت صحيفة "الوطن" القطرية الى أن "المدن الأوروبية انتفضت بمظاهرات حاشدة دعمًا لفلسطين واحتجاجًا على العمليات العسكرية الإسرائيلية والإبادة المستمرة، وأن بعض الحكومات أو الأحزاب الأوروبية أعلنت الغضب وبدأت تأخذ مواقف أكثر انتقادًا للكيان الإسرائيلي"، متسائلة "ألم يحن الوقت لغضبة عربية جادة تهدد بإلغاء اتفاقات السلام، وبدء إعلان التطوع للجهاد؟.. المقاومة الفلسطينية لا زالت تقاوم.. فهل من رشيد يدعم المقاومة بإخلاص؟"، وفق تعبيرها.
وأكدت صحيفة "الرياض" السعودية أنه "في الوقت الذي تسعى فيه الدول العربية للسلام الحقيقي وتحشد له، يزداد فيه التعنت الإسرائيلي الذي يعتبر السلام أمرًا غير مقبول إلا على الطريقة التي يرغب بها وتحقق مصالحه وحده"، متطرقة الى ازدياد "عدد الدول التي تعترف بفلسطين، في دلالة واضحة على زيادة انعزال إسرائيل وعدم جدوى سياساتها القمعية التي لا تؤمن إلا بالحرب كوسيلة لتحقيق أهدافها التوسعية على حساب الشعب الفلسطيني الأعزل الذي يواجه آلة الحرب الإسرائيلية التي تمعن في القتل والدمار دون حدود".
صحيفة "عكاظ" السعودية، بدورها، ركزت على أن ترامب ادرك باكرًا أن "زمن الهيمنة الأمريكية الأحادية قد ولّى، وأن العالم يشهد صعود قوى جديدة تتحدى الثنائية الصلبة/ الناعمة التقليدية"، لافتة الى أن تصريحاته الأخيرة في الرياض، حيث انتقد "بناة الأمم" ومحاولات فرض الثقافة الأمريكية، تعكس فهمًا عميقًا لتحولات العصر: فالشعوب اليوم ترفض الهيمنة الثقافية كما ترفض الهيمنة السياسية، وهي تصنع نهضتها معتمدة على مقوماتها الحضارية الخاصة".
الموضوع نفسه تطرقت اليه صحيفة "البلاد" البحرينية التي شددت على أن "الزيارة التاريخية لدونالد ترامب إلى الرياض وحضور القمة الأميركية الخليجية يمثلان لحظة مهمة في إعادة صياغة التوازنات الإقليمية والدولية في الشرق الأوسط"، داعية الى توظيف ما أسمته "المكانة المتنامية للدبلوماسية الخليجية في حل أزمة الشرق الأوسط ووقف الحرب على غزة وتقريب وجهات النظر بين موسكو وكييف وإحلال السلام في مناطق متعددة من العالم".
أما صحيفة "الأهرام" المصرية، فأوضحت أن الرئيس الاميركي "لم يحقق الإنجازات التي وعد بها حتى الملف النووي الإيراني، لم يحدث به تقدم حتى اليوم في ظل رفض إيران الضغوط الأمريكية لمنع تخصيب اليورانيوم وإنهاء الحرب الروسية ـ الأوكرانية". واضافت "ومع مجيء ترامب في ولايته الثانية كانت لديه تحركات وخريطة طريق مختلفة بشأن قطاع غزة، فأراد ابتلاع القطاع واعتباره جزءا من الولايات المتحدة تتولى إدارته والاستثمار فيه وتحويله لمنتجع سياحي عالمي، وقوبلت هذه الأفكار بالرفض المصر، بل وطرحت مصر خطة بديلة تتعلق بإعادة الاعمار مع بقاء أهل غزة داخل أرضهم وعدم تهجيرهم".
(رصد "عروبة 22")