اتهم رئيس الوزراء الإسرائيلي نيتانياهو؛ قادة كل من المملكة المتحدة وفرنسا وكندا، بأنهم يقفون وراء "تحريض" معادٍ لإسرائيل، وأن هذا كان سببا رئيسيا في حادث إطلاق النار الذي وقع أخيرا خارج المتحف اليهودي في واشنطن العاصمة. هل يمكن أن يصدق أحد ذلك، وهل يبدو متماسكا ومقنعا بأي صورة؟، بالتأكيد لا! لكنه على أي حال جاء كتسجيل موقف رسمي للدولة الإسرائيلية تعليقا على الحادث، الذي أودى بحياة اثنين من العاملين بالسفارة الإسرائيلية في الولايات المتحدة.
رئيس الحكومة الإسرائيلية ووزير خارجيته جدعون ساعر طرحا الأمر على هذا النحو، حيث اعتبرا الحادث فرصة سانحة كي يبعثا برسالة رد لقادة الدول الثلاث، الذين خرجوا قبل أيام ليعبروا عن "تململ" تأخر طويلا، مما تشهده حرب الإبادة والتجويع التي تدور بحق الفلسطينيين، عبر توقيع رسالة مشتركة شديدة اللهجة تدين ممارسات إسرائيل في غزة.
الرئيس الأمريكي ترامب بدوره، أرجع دوافع الحادث إلى "معاداة السامية" في إدانته له، مشددا على ضرورة أن تنتهي عمليات القتل المروعة هذه في العاصمة، التي تستند بحسب وصفه إلى "معاداة السامية"! وهذا استدعاء نمطي بات كلاسيكيا بالمعنى السلبي، لم يعد يقنع أحدا بالمرة، لا الجمهور الأمريكي ولا المجتمع الدولي في أي من شرائحه المختلفة. ربما اضطر الرئيس الأمريكي لاستخدام هذا التوصيف "المعلب"، بعد أن تبين أن مرتكب الحادث "إلياس رودريجز" مواطن أمريكي خالص، يقطن مدينة شيكاغو سافر جوا إلى واشنطن قبل يوم من ارتكابه للحادث، وبحوزته سلاح ناري اشتراه بشكل قانوني من إلينوى في حقيبته المسجلة. وهو على هذا النحو تحرك بإرادة ثابتة، وتعقل كامل مستخدما السماح الذي يعطيه له القانون الأمريكي، بحمل السلاح واستخدامه فى التعبير عن "وجهة نظره" بصورة أو أخرى.
الأمن الأمريكي خلال إجراءات تفتيشه منزل رودريجز بعد إلقاء القبض عليه بموقع الحادث، تبين لهم قيامه بوضع صورة على نافذة منزله في شيكاغو للطفل "وديع الفيومي" الأمريكي من أصل فلسطيني البالغ من العمر ست سنوات، السابق تعرضه لجريمة قتل "طعنا" عام 2023، وأدين قاتله بارتكاب "جريمة كراهية" باعتبار دافعه المثبت حينذاك كان كراهية الإسلام والحرب في غزة.
"إلياس رودريجز" الأمريكي النموذج، يعبر بوضوح عن الشرائح الجديدة التي دخلت إلى دائرة الغضب بشكل تلقائي، بل يبدو منطقيا إلى أبعد الحدود. رودريجز 30 عاما، يعمل في الجمعية الأمريكية لتقويم العظام منذ 2024، له اهتمامات سياسية يعبر عنها تيار يساري يتنامى أخيرا في الداخل الأمريكي، عنوانه الرئيسي هو رفض السياسات وتوجهات الحكومات الأمريكية في معالجة قضايا العالم المختلفة، والثابت أن أجهزة الأمن أكدت أن إلياس رودريجز لم تكن له سابقة واحدة مع الشرطة، ولم تر فى سجله أى شيء يجعله يخضع لـ"المراقبة الأمنية".
وسائل الإعلام وثقت عملية إلقاء القبض على رودريجز، الذي لم يغادر موقع الحادث وبدا هادئا إلى حد كبير، بل وحرص على إطلاق صيحة "الحرية لفلسطين" بشكل متكرر ومسموع للمحيطين به وللشرطة، والأهم أنها وصلت وسجلت في وسائل الإعلام بشكل واضح. سمح ذلك بتداول المقطع المصور على نطاق واسع في منصات التواصل الاجتماعي، وحظي بمشاهدات مليونية خلال دقائق. وبدت كثافة التعليقات لافتة إلى حد كبير، لكن يظل الأكثر لفتا للانتباه أن عشرات التعليقات الأمريكية والغربية بالخصوص أجمعت على توصيف واحد لفعل رودريجز وصيحته، بأنها "صرخة عدالة ضد جرائم الاحتلال"!
التعليق بالتأكيد يحمل قدرا كبيرا من الالتباس، وليس دقيقا ولا موضوعيا في أكثر من جانب، بالنظر إلى حادث إطلاق للنيران على مدنيين آمنين وبصورة عشوائية إلى حد ما، فالمستهدف بالاعتداء يحصر الضحايا بأن يكون لهم ارتباط بدولة إسرائيل بشكل أو آخر، هكذا يمكن قراءة فكر وخطط إلياس رودريجز مما يتضح من الملابسات غير الغامضة حتى الآن. لكننا نقف هنا أمام تعليقات "الجمهور" المتحررة من قيود المنطق والتعقل، وتتسلل إلى منصات التواصل الاجتماعى لتصنع "اتجاه" للرأي العام يصعب تجاهل نسبة "الغالبية" فيه، التي تحمل منطقا مضادا لما سبق تعبر عنه تعليقا على هذا الحادث وفي غيره من المواقف والحوادث ذات الارتباط.
هذه الغالبية بدت حاضرة هذه المرة، تطرح وقد طرحت من قبل سؤال العدالة الغائبة في كل ما يحدث في غزة بحق الشعب الفلسطيني، وليس بخاف عنها تمدد مساحات التواطؤ غير المبرر ممن يملك محاصرة هذا التدهور الأخلاقي، وهنا تتجه أصابع الاتهام مباشرة إلى الولايات المتحدة وإلى المجتمع الغربي بشكل عام، ليس بممارسة ضغط من نوع ما على إسرائيل لإيقاف الحرب، بل لطبيعة التحالف الاستراتيجي بين هذه الأنظمة الرسمية ودولة إسرائيل، والذي لم يبخل بأشكال الدعم المختلفة طوال شهور وأيام الحرب الدامية. هذا دفع بعض دول هذا المعسكر لممارسة نوع من التطهر الرمزي، على شاكلة بيان ورسالة بريطانيا وفرنسا وكندا الأخيرة التي هاجمتها إسرائيل، واعتبرتها مناصرة ودعما لـ"حركة حماس".
هناك استشعار بالغ بالقلق، لدى قادة وأنظمة تلك البلدان التي دعمت وتدعم إسرائيل حتى اللحظة، فـ"الهم الأخلاقي" تجاوز خطوط الأمان بمسافات، وإطلاق النار المفتوح على موظفين آمنين لمجرد عملهم بسفارة إسرائيلية بات يسمى "بحثا عن العدالة"، هذا يدركه السياسيون وتتحسب منه الأجهزة الأمنية على مستوى العالم، وإن لم يعلن خارج الغرف المغلقة التي يعكف المسؤولون بداخلها في أكثر من دولة وفي عديد المجتمعات، بالتفتيش عن الحلول الغائبة أو "المحاصرة". هذا بالمناسبة هو التعبير الأشهر الموجود بعشرات التقارير الإعلامية والدراسات البحثية، التي سبقت حادث واشنطن بأيام قليلة جميعها تتناول حالة "الحصار" و"العزلة" المتنامية التي تواجهها إسرائيل في مجالات عدة.
هذا ملحوظ؛ وبات يرصد ويناقش على نطاق واسع، وهو آلية محدودة مازالت في مراحلها الأولى لكنها انطلقت هي الأخرى بحثا عن العدالة المفقودة، ويظل الأخطر أن محفزات الغضب على شاكلة "حادث واشنطن"، تسبق هذه المراحل وتستخدم العنف سبيلا لإرساء هذه العدالة، وجميع المؤشرات ترشحها بأن تتسع، بحيث لن تقف عند حدود الولايات المتحدة أو المعسكر الغربي، بل ستمتد يقينا لما هو أبعد.
(الأهرام المصرية)