قمة حلف شمال الإطلنطي "الناتو" الدورية هذا العام، التي تعقد في لاهاي، قد تكون مفصلية في تاريخ الحلف. أعضاء الحلف يتمنون ويأملون في إقناع الولايات المتحدة بالبقاء في الحلف بنفس الصيغة القديمة، وأمريكا تريد من بقية أعضاء الحلف الـ31 رفع إنفاقهم الدفاعي إلى 5 % من الناتج المحلي الإجمالي لكل دولة.
ولا تقتصر الخلافات على ذلك، بل امتدت إلى ما كان يمكن تسميته بالمحرمات، وهي طبيعة العلاقات الأمريكية مع روسيا. يوم الخميس الماضي، انعقد الاجتماع غير الرسمي لوزراء خارجية دول الحلف في مدينة أنطاليا التركية، لمناقشة قضايا كثيرة أهمها الاستعدادات لقمة لاهاي. بطبيعة الحال فإن الهاجس الأساسي الذي يشغل غالبية دول الحلف هو سياسات وتوجهات الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، والملف الأوكراني.
ويتوجس غالبية أعضاء الحلف من التقارب المستمر بين ترامب والرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بل إن اعتقاداً لدى البعض من دول الناتو بأن ترامب صار يتبنى رؤية بوتين فيما يتعلق بالصراع وكيفية حله. وانتهى الأمر بتوقيع معاهدة المعادن الشهيرة قبل أيام، وهي تتيح للولايات المتحدة الحصول على جزء كبير من ثروة أوكرانيا من المعادن النادرة المهمة للصناعات التكنولوجية الدقيقة نظير المساعدات العسكرية والاقتصادية التي قدمتها واشنطن لكييف منذ اندلاع الحرب فى 22 فبراير 2022، ويقدرها البيت الأبيض بنحو 300 مليار دولار.
الأوروبيون حاولوا تعويض المساعدات الأمريكية لأوكرانيا، لكنهم ورغم التصريحات المتفائلة والإيجابية من عدد كبير من قادة أوروبا خصوصاً ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، إلا أن الفجوة لا تزال واسعة، بالنظر إلى الصعوبات الاقتصادية في القارة الأوروبية الناتجة عن تراجع معدلات النمو الاقتصادي ومشاكل التضخم والديون، والأهم أن الاقتصادات الأوروبية اعتادت على أن أمريكا هي الممول الأكبر للحلف.
ويوم الخميس الماضي، وعلى الرغم من أن القوة الاقتصادية لحلف الناتو تفوق القوة الاقتصادية الروسية بـ 25 ضعفاً، إلا أن الروس تمكنوا من إعادة هيكلة أنفسهم بسرعة، وصاروا الآن ينتجون في 3 أشهر ذخيرة كان حلف الناتو ينتجها في عام كامل. ونتيجة لذلك فإن الأمين العام للحلف، مارك روته الذي تسلم مهام منصبه أكتوبر الماضي، قال: "إن الحلف يحتاج إلى إعادة تطوير نفسه في مجمل الصناعات الدفاعية". وتظل المعضلة الكبرى هي مطالب ترامب للحلف بزيادة الانفاق الدفاعي إلى 3 أو 5 % لأن تحقيق ذلك سيعني مصاعب اقتصادية للعديد من بلدان الحلف.
إجمالى الإنفاق الدفاعي لدول الحلف بلغ في عام 2024 نحو 1.47 تريليون دولار، تساهم الولايات المتحدة بنسبة الثلثين بنحو 967 مليار دولار هي نسبة ميزانيتها الدفاعية. ونعلم أن ترامب يضغط على دول الناتو لرفع النسبة إلى 5 % حتى يمكنها تخفيف الأعباء على الولايات المتحدة، وهو أمر يبدو صعباً للغاية ليس فقط نسبة 5 % ولكن حتى نسبة 3 % لبعض دول الحلف.
واشنطن تقول إن استمرار صيغة تمويلها الحالية مستحيلة، لأن توفير المظلة الدفاعية لدول الحلف مجاناً تحقق المزيد من التقدم الاقتصادي لدول الحلف، في حين أن واشنطن هي من يدفع الثمن لاحقاً في صورة عجز تجاري. ونعلم أيضاً أن ترامب سبق وهدد دول الحلف علناً بأنه سوف يترك روسيا تلتهمهم إذا لم يرفعوا مساهماتهم في ميزانية الحلف. المعضلة الكبرى أيضاً هي أن ترامب يميل إلى تبني الرواية الروسية المطالبة بعدم انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو.
والأخطر الموافقة المبدئية على استمرار سيطرة روسيا على بعض الأراضي التي سيطرت عليها في أوكرانيا، خصوصاً شبه جزيرة القرم منذ عام 2014، إضافة لأراضي أخرى في إقليم الدونباس حيث سيطرت عليها روسيا في الحرب الأخيرة. يوم الخميس الماضي، وقبل انطلاق اجتماع أنطاليا قال مارك روته: "إن الحلف يواجه تحديات متعددة تتطلب تعزيز الجهود الدفاعية على كافة المستويات، خصوصاً في ظل التهديدات المستمرة، وبالأخص التهديد الروسي، والتوسع العسكري المتزايد في الصين كما أن خطر الإرهاب لا يزال قائماً".
بالطبع كل هذه التهديدات قديمة وليست وليدة اللحظة أو حتى هذا العام، لكن أظن أن التحدي الأكبر أمام الحلف هو سياسات الرئيس ترامب الذي يتعامل بمنطق عدم حماية بلدان الناتو مجاناً، وكذلك تبنيه لعدد من سياسات الرئيس الروسي بوتين، ما يمثل خطراً دائماً على أوروبا.
اجتماع لاهاي الشهر المقبل قد يجيب عن بعض هذه الأسئلة الوجودية، وأمامه ثلاثة سيناريوهات؛ إما تعزيز العلاقة الأوروبية الأمريكية على أسس جديدة تستجيب لمطالب ترامب، أو الطلاق الكامل لأول مرة منذ تأسيس الحلف عام 1949، عقب نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945، أو استمرار الأمور معلقة وغير محسومة انتظاراً لوقت لاحق.
(البيان الإماراتية)