ويبلغ متوسط معامل الانحدار نحو 1,5 متر لكل كيلومتر في إجمالي مجراه الإثيوبي، مما يجعل مياهه تتدفّق بقوّة وسرعة يحتاج معهما بناء سدّ عليه إلى احتياطات فنية شديدة الدقة والتعقيد لأنّ أيّ خلل جوهريّ يمكن أن يؤدي لانهياره وتدمير أغلب المدن السودانية، بينما ستتكفّل بحيرة ناصر ومفيض الطوارئ في توشكا بحماية مصر في تلك الحالة. وفي الوقت نفسه تقوم إثيوبيا بتنفيذ السدّ مستفيدةً من أنّ حكومتَي مصر والسودان لا يبدو أنّ لديهما بديلًا لتلك المفاوضات العبثية.
"غياب البدائل"... يفتح الطريق لملء تلو آخر
يقول المثل الانجليزي: "غياب البدائل يحرّر العقول"، لذا تتصرّف إثيوبيا بحرية متجاوزة القانون الدولي طالما أنّ مصر والسودان لا يلوّحان بأي بديل حقيقي للمفاوضات العبثية، حيث انتهت من الملء الثالث في العام الماضي رافعةً مخزون بحيرة سدّ النهضة إلى 22 مليار متر مكعب من المياه، وتمكّنت من تشغيل 2 من التوربينات الـ13 للسد ممّا مكّنها من توليد نحو 650 ميجاوات من الكهرباء، وبدأت الملء الرابع مع فيضان العام الحالي للنيل الأزرق، وستصل مع اكتماله إلى مخزون قد يصل إلى 45 مليار متر مكعب.
وإذا كان السودان لديه بعض الأمطار والأنهار الأخرى التي تمنحه نحو 30 مليار متر مكعب من المياه الداخلية المتجدّدة للسودان التاريخي قبل انقسامه إلى شمال وجنوب (غالبيتها من نصيب الجنوب)، فإنّ مصر ليس لديها سوى 2 مليار متر مكعب من المياه الداخلية المتجدّدة، وبالتالي فإنها تعتمد كليًا على حصّتها من مياه النيل (55,5 مليار متر مكعب) وعلى إعادة استخدام مياه الصرف الزراعي والصحي المعالج وأحيانًا غير المعالج.
أي أنّ الحفاظ على حصّة مصر من مياه النيل هي مسألة حياة أو موت بالنسبة لمصر، والنيل الأزرق (48 مليار متر مكعب عند أسوان تعادل 57% من إجمالي إيرادات النيل عندها) هو القلب الحراكي لنهر النيل وشريان حياة مصر أكثر من مجموع الروافد الأخرى لنهر النيل.
فترة الملء وأمان السد وآلية التشغيل.. أزمات بلا حل
تملك إثيوبيا مياه داخلية متجدّدة تبلغ 122 مليار متر مكعب سنويًا من خلال 30 نهرًا ولا تستخدم منها سوى أقل من 10 مليارات متر مكعب رغم كل الاستثمارات الزراعية الأجنبية لديها. كما تملك هطولًا مطريًا يتجاوز 900 مليار متر مكعب سنويًا وخزانات للمياه الجوفية. إنها باختصار نافورة المياه المدارية في أفريقيا، ولا تحتاج بالتأكيد لمياه النيل الأزرق الذي يجري في منطقة وعرة غالبيتها غير صالحة للزراعة. لكن ذلك النهر الشديد الانحدار ينطوي على مساقط مياه يمكن توليد الكهرباء التي تحتاجها إثيوبيا منها وهذا حقها شرط ألا تضرّ بتدفق المياه لمصر والسودان.
ومن المؤكد أنّ حاجة إثيوبيا للكهرباء ستجعلها، إذا استبعدنا الكيد السياسي، تمرّر مياه النيل الأزرق لمصر والسودان. والمشكلة تكمن في فترة ملء خزان السد (74,5 مليار متر مكعب) التي ستؤثّر على إمدادات المياه لمصر والسودان والتي لم يتمّ الاتفاق بشأنها، حيث تقتضي مصلحة مصر والسودان إطالة فترة الملء لتقليص الاقتطاع السنوي من إيراد النهر إلى مستوى يمكن لمصر والسودان تحمّله وتعويضه من مخزون بحيرة ناصر. وحتى لو أدّى فيضان عالي كذلك الذي جاء في العام الماضي إلى تخفيف وطأة التخزين الإثيوبي، فإنه أمر استثنائي قد لا يتكرّر في باقي سنوات الملء. كما أنّ التحكّم في تدفق المياه خلال دورات الجفاف السباعية التي تتعرّض لها منابع النيل كل قرن تقريبًا سوف يكون بيد إثيوبيا وهو خطر على حياة مصر وشعبها أثناء تلك الدورات الرهيبة.
هل ينبغي الخروج من اتفاق 2015 الرديء من منظور مصالح مصر؟
من المؤكّد أنّ الدفاع عن حقوق مصر المائية هو أحد أهم أسس الشرعية لأي نظام سياسي حاكم في مصر. والنظام السياسي المصري الحالي الذي وضعته التطورات في قلب هذا الاختبار لم يحقّق أيّ اختراق يوقف فرض الأمر الواقع الإثيوبي في قضية سد النهضة، بل إنّ الاتفاق الوحيد الذي وقّعه الرئيس المصري الحالي مع رئيس السودان ورئيس وزراء اثيوبيا عام 2015 هو الأسوأ من منظور المصالح المصرية في مجمل تاريخ الاتفاقيات بين مصر وإثيوبيا بشأن مياه النيل، وينطوي على تفريط صريح في حقوق مصر التاريخية في ضمان التدفّق الحرّ والكامل لمياه النيل الأزرق ونهر السوباط إلى مجرى النيل الرئيسي ومصبّه في مصر وفقًا للاتفاق العمدة الموقّع في 15 مايو عام 1902 بين بريطانيا كدولة احتلال لمصر ومنليك الثاني ملك إثيوبيا والذي تعهّد فيه بأن لا يقوم بإنشاء أو يسمح بإنشاء أعمال على النيل الأزرق أو بحيرة تانا أو نهر السوباط من شأنها الحد من تدفّق المياه منها لنهر النيل إلا بعد الرجوع والاتفاق مع حكومة بريطانيا كنائب عن مصر.
ووفقًا لقاعدة الاستخلاف في القانون الدولي، فإنّ مصر ورثت ذلك الاتفاق الذي تمّ تبديد أسسه من خلال الاتفاق الرديء لعام 2015 الذي لم ينصّ على احترام التدفّق الحرّ والكامل لمياه النيل الأزرق والروافد الإثيوبية الأخرى إلى السودان ومصر كحقوق تاريخية وقانونية تمّ إقرارها بالاتفاقيات السابقة، بل إنه نصّ على أنّ الاتفاق هو بشأن الموارد المائية العابرة للحدود، وهو انتصار لإثيوبيا التي تصرّ على تفادي تسمية النيل الأزرق بالنهر الدولي رغم أنّ اشتراك السودان فيه، وكونه الرافد الرئيسي المكوّن لنهر النيل بدايةً من الخرطوم حتى المصب، يجعله نهرًا دوليًا بامتياز.
هي مسألة "حياة أو موت" بالنسبة لمصر وشعبها وقطاع الزراعة والثروة الحيوانية فيها
ونصّ الاتفاق في مادته الأولى على ضرورة "التعاون في تفهّم الاحتياجات المائية لدول المنبع والمصب بمختلف مناحيها. وهذا النص يؤسّس لحقوق إثيوبية في مياه النيل الأزرق وهي حقّ خالص لمصر والسودان تاريخيًا وفقًا لاتفاق عام 1902.
ويتأكد هذا التأسيس لحقوق إثيوبية في مياه النيل الأزرق في المادة الرابعة من اتفاق 2015 حيث ينصّ على أنّ الدول الثلاث (إثيوبيا والسودان ومصر) سوف تستخدم مواردها المائية المشتركة في أقاليمها بأسلوب منصف ومناسب.
ونصّ الاتفاق في مادته الخامسة على مهلة قدرها 15 شهرًا للاتفاق على الخطوط الإرشادية وقواعد الملء الأول لبحيرة سد النهضة، ومرّ أكثر من 100 شهر على إبرام ذلك الاتفاق في مارس 2015 ولم يتمّ أيّ شئ في هذا الشأن مما يؤكد على أنّ إثيوبيا تراوغ وتستهلك الوقت وهي تستكمل سدّها دون أي اتفاق على فترة ملء خزانه، أو سعة ذلك الخزان، أو إدارة تمرير المياه منه للحفاظ على بحيرة ناصر وعلى توليد الكهرباء من المحطة الكهرومائية للسد العالي أو التعويض عن أيّ نقص في هذا التوليد وغيرها من القضايا محلّ التفاوض.
بل إنها قامت بالملء الأول والثاني والثالث وتقوم بالملء الرابع حاليًا. وقد لا يشعر المصريون الآن بنقص المياه نتيجة السحب من البنك المركزي للمياه المتمثّل في بحيرة ناصر والفيضان المرتفع في العام الماضي، لكنّ استمرار السحب من البحيرة سوف يخصم من مخزونها وهو صمام أمان حياة مصر ويؤثّر على المياه المخصّصة للقطاع الزراعي بالذات، كما سيؤثّر على قدرة المحطة الكهرومائية للسد العالي على توليد الكهرباء.
لاحترام الحقوق التاريخية وانتساب المياه لمن استخدمها واعتمدت حياته عليها وليس لبقعة الأرض التي نبعت منها
أما في سنوات الجفاف السباعي التي تتكرّر كل قرن تقريبًا، فإنّ إدارة تمرير المياه والحصول على كامل حصّة مصر من مياه النهر هي مسألة "حياة أو موت" بالنسبة لمصر وشعبها وقطاع الزراعة والثروة الحيوانية فيها.
وتنصّ المادة 9 من ذلك الاتفاق على مبدأ السيادة ووحدة إقليم الدولة، وهو نصّ أوردته إثيوبيا للتذكير بنظرية السيادة المطلقة الفاسدة التي تستند إليها في سلوكها بشأن النيل الأزرق انطلاقًا من السيادة المطلقة على إقليمها، بما فيه المياه التي تنبع منه حتى ولو كانت هي سرّ وجود وحياة الشعوب التي تدفّقت إليها وصارت حقًا تاريخيًا أصيلًا لها. وتلك النظرية أمريكية المنشأ وفاسدة كليًا وتمّ تجاوزها حتى في الولايات المتحدة والانتقال لاحترام الحقوق التاريخية وانتساب المياه لمن استخدمها واعتمدت حياته عليها وليس لبقعة الأرض التي نبعت منها.
ولا بدّ من الإنسحاب من ذلك الاتفاق الرديء للتخلّص من كل خطايا التوقيع عليه اعتمادًا على أنّ الطرف الآخر (إثيوبيا) هو الذي انسحب من الاتفاق عمليًا بعدم الالتزام بتطبيقه، وفتح كل الخيارات والبدائل للتعامل مع التعنّت الإثيوبي في المفاوضات.
(خاص "عروبة 22")