تقدير موقف

شمال شرق سوريا: الخطوة الأخيرة!

كرّس العهد السوري الجديد منذ إطاحة نظام الأسد، فكرة أنّ إقلاعه يحتاج الى إتمام ثلاث مهمّات لا بدّ منها. أوّلها اعادة بناء وتثبيت أركان ومؤسّسات الدولة السورية بعيدًا عن إرث النظام البائد، والثانية اكتساب شرعية إقليمية ودولية تساعد ليس على استعادة حضور سوريا في محيطها فقط، وإنّما أيضًا الحصول على دعمه لعملية إعادة بناء البلاد، والثالثة إعادة توحيد الكيان السوري، وإنهاء تقسيمات الأمر الواقع وسلطاتها، التي تكرّست في تطوّرات الصراع السوري.

شمال شرق سوريا: الخطوة الأخيرة!

للحقّ، فإنّ الأشهر الستة الماضية، كانت حافلةً بتطوّراتٍ صبّت بصورةٍ مباشرةٍ وغير مباشرةٍ في سياق تلك المهمات وفق ما رسمته السلطة الجديدة.

ففي المهمّة الأولى أعيد تنظيم النصوص والهياكل السياسية والإدارية والتنظيمية، التي رأت القيادة الجديدة أنّها تناسب وتلبّي الاحتياجات، ولعلّ الأبرز فيها ترتيب الإطار السياسي للعهد الجديد، وإعادة ترتيب الوضع الحكومي، وتأسيس الجيش وقوات الأمن، وإعادة تشغيل المؤسّسات التي توقّف العمل فيها.

معظم التشكيلات المُسلّحة في شمال غرب سوريا ذهبت إلى حلّ نفسها والالتحاق بالجيش الجديد

وفي المهمّة الثانية، توالت الخطوات باتجاه تحسين علاقات العهد الجديد مع القوى الإقليمية والدولية الفاعلة والمؤثّرة في الملف السوري ولا سيما بلدان الخليج العربي وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية، ومع الدول الغربية لا سيما غرب أوروبا والولايات المتحدة، وقد عاشت الأخيرة قفزةً هائلةً في علاقاتها مع سوريا بعد رفع العقوبات الأميركية، ولقاء الرئيسيْن السوري احمد الشّرع والأميركي دونالد ترامب نتيجة مساعٍ سعودية - تركية أدارها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان والرئيس التركي رجب أردوغان.

وبالتأكيد فإنّ المهمّة الثالثة، لم تكن خارج التطوّرات التي شهدها الوضع السوري. فقد انتهت حالة التكتّل السياسي والعسكري الذي يتزعّمه أحمد العودة في درعا، وحسّنت الإدارة سيطرتها على الساحل بعد فوْرة فلول الأسد هناك في آذار الماضي، والتي خلّفت تداعيات مأساوية على السوريين، وذهبت معظم التشكيلات المُسلّحة في شمال غرب سوريا إلى حلّ نفسها والالتحاق بالجيش الجديد.

وبخلاف السّياق السابق في تعزيز سيطرة العهد الجديد على الجغرافيا السورية، فإنّ مناطق الإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا مضت في سياقٍ آخر، جوهره تكريس الواقع القائم بصورة عملية، على الرَّغم من التوصّل المبكر لاتفاقٍ وقّعه الرئيس أحمد الشّرع مع مظلوم عبدي قائد قوات سوريا الديموقراطية "قسد" في مارس/آذار 2025، ينصّ صراحةً على تفكيك المؤسّسات البديلة التي شيّدتها الإدارة الذاتية، و"دمج المؤسسات المدنية والعسكرية كافّة في شمال شرق سوريا ضمن إدارة الدولة السورية، بما فيها المعابر الحدودية والمطار وحقول النفط والغاز".

إنّ الحجّة الأساسيّة في تأخّر إجراءات اندماج الإدارة الذاتية ومؤسّساتها في الدولة السورية، هي الحاجة إلى حوارٍ وتوافقاتٍ على "التفاصيل" كما يؤكّد بعض ممثلي الإدارة، غير أنّ أحدًا منهم لا يحدّد وقتًا معيّنًا للحوار الذي تُعيد فكرته إلى الأذهان حوارًا بين الإدارة الذاتية والمجلس الوطني الكردي، استمرّ نحو أربعة عشر عامًا، انتهى مؤخرًا إلى "اتفاقٍ" يعرف الجميع أنّه هشّ، وأنّه جاء نتيجة ظروفٍ سياسيةٍ مؤقتةٍ وطارئة.

تقارير ذات مصداقية عن تحرّكات لميليشيات "داعش" وفلول إيران تحت بصر الإدارة الذاتية في الشرق السوري

خلف واجهة الحاجة إلى حوارٍ بين الإدارة الذاتية والسلطة الحاكمة في دمشق، ثمّة أشياء كثيرة يجري بعضها سرًا وبعضها في العلن، وفي السياق الأخير، يتكرّر نقد ممثلي الإدارة لمحتوى الإعلان الدستوري الصادر في دمشق، ويمارسون التشهير ببعض سياسات السلطات في تشكيلات الجيش الجديد وبعض الشخصيات فيه وبخاصة موضوع المقاتلين الأجانب، والأهمّ ممّا سبق هو العزف على وتر أن السلطة في دمشق "سلطة أمر واقع"، وأنّ طبيعة الإدارة الذاتية، ذات صفة تمثيلية أفضل، وأنّها أنسب لمستقبل سوريا والسوريين.

إذا كان من شأن المواقف السابقة تأخير وإعاقة، وصولًا إلى التشكيك بإمكانية، تنفيذ اتفاق الشرع/عبدي، فإنّ بين الإجراءات غير المعلنة من جانب الإدارة الذاتية وقوات "قسد"، ما يندرج في سياق العدائيات وصولًا إلى مساعي تقويض سلطة العهد الجديد إذا أمكن، وإلى هذا الهدف تقود عمليات التنسيق بين الإدارة وأطراف في مناطق الالتهاب الرّاهنة في الساحل السوري من جهة وفي محافظة السويداء من جهةٍ ثانية، بحيث يتمّ تغذية النزعات "الاستقلالية" وتقديم "مساعدات متنوّعة" بينها إتاحة الفرصة لفلول النظام البائد لتنظيم أنفسهم في شرق الفرات، وإعادة الانتشار والسيطرة المُسلّحة في المربّع الأمني في القامشلي وفي مطارها، وثمّة تقارير ذات مصداقية عن تحرّكاتٍ لميليشيات "داعش" وفلول إيران تحت بصر الإدارة في الشرق السوري.

وسط واقع الحال القائم في مناطق سيطرة الإدارة الذاتية، وتأثيراته الممتدة الى الأنحاء الأخرى، أمهلت وزارة الدفاع في دمشق الفصائل المسلحة في سوريا فرصة، تنتهي قبل نهاية أيار للانخراط في الجيش الجديد، أو أنّها ستكون خارج القانون، ممّا دفع فصائل "الجيش الوطني" في شمال غرب سوريا لإعلان حلّ نفسها والتحاق كوادرها بالجيش السوري، فيما تراوحت مواقف قيادات "قسد" وفصائل موجودة في السويداء بين إعلان رفض طلب وزارة الدفاع أو القول إنّه ثمّة ضرورة للحوار مع القيادة في دمشق.

تراجع القيادة في دمشق سيكون مؤشر فشل ذريع وسيؤدي إلى تدهور الوضع في سوريا إلى حدود غير مسبوقة

رفْض الفصائل المُسلّحة الانضمام إلى الجيش، يدفع العلاقات بين شرق الفرات والسويداء إلى التوتّر مع القيادة في دمشق، لأنّه يضع العلاقات أمام واحدٍ من احتمالَيْن: قيام مواجهات مُسلّحة وسياسية لاختلاف الموقفيْن أو تراجع القيادة في دمشق عن مطلبها، وهو أمر شديد الصعوبة لأنه سيكون مؤشر فشلٍ ذريعٍ في سياساتها، وليس فشل ضمّ الفصائل إلى جيشها فقط، ممّا سيؤدّي إلى تدهور الوضع في سوريا إلى حدودٍ غير مسبوقة، لأنّ الوضع وصل إلى حدود اللّاعودة، ولم يعُد من فرصة سوى الذهاب نحو مواجهاتٍ عنيفة، التي قال ويقول الجميع إنّهم لا يريدونها، ويمنعون الانخراط فيها.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن