في السابع عشر من شهر مايو/ أيار الجاري، عُقدت أعمال القمة العربية بنسختها الثالثة والأربعين في العاصمة العراقية بغداد. ومن بين كل الزعماء العرب لم يحضر للمشاركة في القمة سوى خمسة زعماء عرب فقط هم، أمير دولة قطر، الرئيس المصري، رئيس السلطة الفلسطينية، الرئيس الصومالي، ورئيس مجلس القيادة الرئاسي اليمني، في حين مثّل الدول الباقية رؤساء وفود بمستويات حكومية مختلفة.
غالبا ما تُعتبر مؤتمرات القمة أعلى درجات الدبلوماسية، إذ تتيح فرصة فريدة لزعماء الدول للمشاركة في المناقشات وجها لوجه، وتُحقق تواصلا مباشرا قد يقود إلى بناء علاقات شخصية وليست رسمية فقط، تُسهم في تسهيل التعاون وحل النزاعات، لكنها في الوقت نفسه تُشكّل تحديا للدولة المُضيفة، حيث تتطلب تنسيقا وتخطيطا وتنظيما عالي المستوى، لضمان أن تكون الاجتماعات مُثمرة مع نسبة حضور عالية، وتحقق أهدافها المنشودة، بل ينظر البعض إلى مؤتمرات القمة على أنها مُخاطرة سياسية، في حالة عدم توفر النصاب الكافي من الزعماء صُنّاع القرارات في الدول المُشاركة، أو لم تسفر عن نتائج حقيقية ملموسة، حينذاك تذهب كل الموارد البشرية والمالية التي خُصصت لها سُدى.
وعلى الرغم من أن مؤتمرات القمة العربية الدورية عالقة في الفراغ وأثبتت عدم جديتها مُنذُ عُقود، وتقلّصت حواراتها ومناقشاتها من يوم أو يومين إلى ثلاث أو أربع ساعات، ومن صياغة بياناتها مباشرة من قبل الملوك والرؤساء العرب، إلى فقط إلقاء الكلمات والتوقيع على البيان المُعد مُسبقا من قبل وزراء الخارجية، إلا أن تقييمها ما زال يعتمد على مشاركة الفاعلين في القرار العربي والمؤثرين ماديا ومعنويا من عدمه. فعندما تُشارك دول الخليج العربي، الى جانب سوريا ومصر والجزائر والعراق، فيعني ذلك مشاركة المال والثروة البشرية وأقطاب صُنع القرار التقليدية في الحياة العربية. وعليه يمكن الحُكم على المؤتمر بأنه ناجح، وعدم مشاركة هذه العناصر معناه الفشل المؤكّد.
ولذا عندما ننظر إلى المُعادلة التي أحاطت بقمة بغداد الأخيرة نجدها غير متوازنة تماما، فمن بين ستة زعماء خليجيين لم يحضر سوى أمير دولة قطر. صحيح حضرت مصر بثقلها ومكانتها لكن غابت الجزائر بثقلها ومكانتها. كما تم تغيّب سوريا قسراً من قبل الجهات الفاعلة في الدولة المُضيفة. أما العراق ـ الدولة الحاضنة للمؤتمر ـ فمشكلته الكُبرى إنه ما زال في نظر الكثير من العرب يُغرد في السرب الإيراني، فكيف يُمكن له أن يكون حاضنة قمة عربية؟
لكنّ الأسباب التي أفشلت قمة بغداد كانت موضوعية وذاتية أيضا، أما الأسباب الموضوعية فهي متعلقة بالتطورات الأخيرة في المنطقة، فقد كانت زيارة ترامب إلى كل من السعودية وقطر والإمارات، أحد العوامل التي أفشلت قمة بغداد، حيث أن زخمها لم يُعد يُضاهيه أي زخم آخر، حسب رؤية بعض الدول العربية، بالتالي لم يعُد مُغريا حضور قمة بغداد، في ظل الظن بعدم قدرتها على إنتاج شيء أكثر من قمة العرب مع ترامب، كما أن فتح صفحة جديدة في العلاقات على شتى المستويات بين سوريا والعرب، وكذلك مع الغرب، بات يتضاد بشكل مباشر مع رؤية من يحتضنون القمة في بغداد.
يضاف الى ذلك الهزيمة التي مُني بها ما يُسمى (محور المقاومة) في المنطقة، التي شجّعت الدول العربية الفاعلة على أن تُمارس عملية عزل لمن ما زالوا في هذا المحور مثل سلطات بغداد، في حين أن الأسباب الذاتية متعلقة بالعراق نفسه، فقد أعطت الهجمة الإعلامية غير المُبررة على بعض الحكومات العربية، التي شنتها الأبواق الإعلامية التابعة للميليشيات وممثليهم في البرلمان، والمصحوبة بتهديدات تخص استهداف الرئيس السوري أحمد الشرع، أعطت انطباعا بأن الحكومة العراقية لا تملك من أمرها شيئاً، وأن صناعة القرار ليس في يدها إطلاقاً، وأن ما تتحدث به في الإعلام بشأن الترحيب بالزعماء العرب، تنقضهُ تلك الأصوات المُهددة المتربصة، وأن المُراهنة على رئيس الحكومة رهان خاسر حتى لو قيل بأنه قد انفتح على المحيط العربي، لأن التقيّيم ليس بما يقول بل بما يفعل، تضاف إلى كل ذلك الزيارة المفاجئة التي قام بها زعيم فيلق القدس الإيراني إلى بغداد عشية القمة، والتي أكدت لمن كان لديه بعض الشك، بأن العراق لا يزال ساحة نفوذ إيرانية وقراره ليس مستقلا.
لقد كانت معالم الخيبة الكبيرة واضحة بشكل لافت على الحكومة العراقية، بسبب فشل قمة بغداد، وهذا ما أكدته العبارات التي ساقها الناطق الرسمي باسمها بانفعال خلا من اللباقة الدبلوماسية والمليء بالثغرات السياسية. والسبب في ذلك أن الحكومة كانت بحاجة ماسة للفوز، لكنها اكتشفت أنها خالية من الجاذبية السياسية، ولا تستطيع حماية الأعراف السياسية في العلاقات مع الدول الأخرى، ولا تملك حتى رأس المال السياسي الذي يُمكّنها من إقناع الضيوف بالحضور إلى المؤتمر.
قد يكون رئيس الوزراء قادرا على حماية نفسه من الميليشيات المُمسكة بزمام السلطة، لكن من سيحضرون المؤتمر هم الذين سيسيرون وسط حقل الألغام الذي زرعته هذه الميليشيات، إذا فشلت الحكومة في السيطرة على الأمر. فالتفاؤل الكاذب الذي طبّلت له الحكومة قبل المؤتمر، اكتشفه من لم يحضروا القمة بأنه مجرد خُداع باسم آخر، لذلك فضّلوا الغياب كي يكون غيابهم رسائل عسى أن تتلقفها الحكومة، خصوصا أنها كانت تريد للقمة أن تكون عنوانا لعودة العراق إلى الساحتين العربية والدولية، لكن يبدو أن تداعيات الحقبة الإيرانية التي لم تنحسر بعد، كان لها تأثير مباشر على تدني مستوى التمثيل العربي.
إن أزمة الحكومات العراقية منذ عام 2005 وحتى اليوم، تتمثل في أنهم خلف حجاب من الخطب الرفيعة، والأوصاف التي ليس لها من أثر على أرض الواقع، مثل السيادة واستقلالية القرار العراقي، والقدرة على الفعل الاستراتيجي، والتحول الى مركز توافق بين المتنازعين الإقليميين والدوليين وغيرها، مارسوا واقعية سياسية ساخرة تفتقر دائما إلى الشرعية في الداخل والخارج. كما أنهم لم يستطيعوا حتى اليوم امتلاك القوة الناعمة، التي يستطيعون بها إقناع الآخرين برغبة في غايات مُماثلة، لأنهم ببساطة لا يفكرون كثيرا في المستقبل، لذا لم يهتموا بوسائل التأثير هذه، لأنها بالنسبة لهم لا عوائد استثمار فورية لها، فهم مُغرمون بالطائفية والتحشيد ضد كل ما هو عربي، لكل هذه الأسباب نجد العراق في فوضى استراتيجية كبيرة.
(القدس العربي)