موقف عالمي تضامني مع غزة

الصورة التي أرادت إسرائيل، تعميمها عن ذاتها، منذ تأسيسها، بوصفها دولة ديمقراطية وحيدة، وسط غابة من الديكتاتوريات وأنظمة الاستبداد، باتت مشروخة وغير مقبولة من العالم، بعد ممارسة حرب إبادة مفرطة بحق سكان غزة. لقد تحول العالم بأسره، وبشكل خاص على المستوى الشعبي، من عالم مأخوذ بدعاية إسرائيل، عن ديمقراطيتها، إلى مستنكر لممارساتها بحق الشعب الفلسطيني، بالأراضي المحتلة. ومجدداً تعالت الأصوات، الرسمية والشعبية، مطالبة بحق تقرير المصير للفلسطينيين، وإقامة دولتهم المستقلة، فوق ترابهم الوطني.

فدول الاتحاد الأوروبي، تدرس حالياً، وبشكل جدي فرض عقوبات اقتصادية على إسرائيل. وعلى صعيد منفصل، فرضت بريطانيا وفرنسا وكندا، عقوبات محددة على المستوطنين الإسرائيليين، بسبب هجماتهم العنيفة على الفلسطينيين، في الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة. وضمن ما تجري مناقشته، في هذا السياق، تعليق العلاقات التجارية.

وبالمثل، طالب وزير الخارجية الهولندي، كاسبار فيليدكامب، بإعادة النظر في العلاقات التجارية، بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل، وتعليق الاتفاقيات القائمة، مستنداً إلى المادة الثانية، من اتفاق الشراكة بين الطرفين، التي تتيح للاتحاد الأوروبي، تعليق الاتفاقيات، إذا رأى أن إسرائيل ترتكب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان. في السويد، أعلنت وزيرة الخارجية أن بلادها طالما لم تر أي تحسن واضح لوضع المدنيين في غزة، فإنها ستصعد خطابها الرافض لتلك الممارسات، وستضغط من أجل أن يفرض الاتحاد الأوروبي، عقوبات على وزراء إسرائيليين بعينهم.

يمكن القول، إن رفض العالم للسلوك الإسرائيلي، بات يتركز على جملة من الأفعال التي ترتكبها إسرائيل بحق الفلسطينيين. وتتلخص تلك الأفعال، في استمرار احتلال الأراضي الفلسطينية، التي سطت عليها منذ حرب حزيران/يونيو عام 1967، والتي أجمع كل العالم، على أنها أراضٍ محتلة، بموجب شرعة الأمم وقرارات الأمم المتحدة، وبشكل خاص قراري 242,338.

وعلى أساس القانون الدولي، يعتبر بناء المستوطنات، بالأراضي الفلسطينية، غير قانوني، ويشكل عائقاً أمام عملية السلام، ويزيد من معاناة الفلسطينيين. وما يضاعف في إدانة الخروق الإسرائيلية، هو الانتهاكات الواسعة لحقوق الإنسان، بما في ذلك القتل والاعتقال التعسفي، والاعتداءات على المنازل، وتأثيرات ذلك في الحياة اليومية للسكان. يضاف إلى ذلك، العقاب الجماعي على المدنيين، والقيود التي يفرضها جيش الاحتلال، على تحركاتهم، والحد من وصول المساعدات، وتدهور البنية التحتية، وتردي الأوضاع الاقتصادية.

الدولة الوحيدة، على مستوى العالم، التي لم تستنكر بشكل صريح ومباشر، الممارسات الإسرائيلية، بالأراضي الفلسطينية، هي الولايات المتحدة الأمريكية. وتلك للأسف، سياسة دأبت عليها الإدارات الأمريكية المتعاقبة، باستثناءات نادرة، منذ تأسيس إسرائيل عام 1948، وتعهد إدارة الرئيس هاري ترومان بحمايتها. ومع ذلك يقتضي التنويه، أن تظاهرات ضمت مئات الآلاف من الأمريكيين، شهدتها عدة مدن أمريكية، مثل نيويورك والعاصمة واشنطن وديترويت ولوس أنجلوس، في تعبير واضح عن الافتراق بين إدانة المواطنين الأمريكيين، وبضمنهم عدد من اليهود للانتهاكات الإسرائيلية، وتأييد الحكومة لتلك لها.

ويقتضي التنويه، أن محكمة العدل الدولية، منذ بداية حرب الإبادة بحق سكان غزة، وبإسهام ودعم كبيرين، من دولة جنوب إفريقيا، قد طالبت بشكل حاسم، بمحاكمة رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه. وقد نتج عن ذلك إصدار محكمة الجنايات الدولية أمراً بالقبض على نتنياهو، ووزير الدفاع السابق في حكومته. ولا شك أن ذلك فرض على المطلوبين، أثناء سفرهم للخارج سلوك طرق جوية تجنبهم الاستسلام للعدالة.

في الداخل الإسرائيلي، تصاعدت الصراعات بين المعارضة والحكومة بسبب أحداث غزة، بما يشي بتداعيات أمنية مستمرة. فقد أشارت وكالات الأنباء العالمية إلى تزايد المخاوف، حول مستقبل الديمقراطية التي أطلق عليها بعض علماء الاجتماع الإسرائيليين، اسم "الديمقراطية الإثنية"، وفي خضم الصراعات المحتدمة بين المعارضة والحكومة، تتواصل تظاهرات عوائل المحتجزين، مطالبة بالتوصل إلى حلول عملية تضمن سلامة أبنائهم.

إن الموقف الرسمي والشعبي، الذي أشرنا إلى بعض تفاصيله، هو بلا شك، دعم كبير للقضية الفلسطينية، ومن شأن استمراره، أن يسهم في تحقيق عزلة إسرائيل دولياً عن العالم، ويجبرها على إنهاء حرب الإبادة، والانتهاكات اليومية التي تمارسها بحق الفلسطينيين، والخضوع للمطالب الدولية، بإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة. لكن الأهم، هو أن يرتقي الضغط الرسمي والشعبي العربيين، إلى مستوى يفترض فيه، أن يكون متقدماً على المواقف الدولية، وفي أبسط الأحوال مكافئاً لها. وذلك ما يتوافق مع الأخوة والروابط القومية، ومركزية قضية فلسطين بالوجدان العربي، ويتسق مع الحق الطبيعي للأمم في تقرير مصائرها وأقدارها، وهو حق كفلته شرائع السماء والقوانين الوضعية.

إن مستقبل القضية الفلسطينية، مرهون أيضاً، بإنهاء الانقسام، وتحقيق الوحدة بين مختلف الفصائل الفلسطينية، على قاعدة حق الشعوب المستعمرة، في النضال بمختلف الوسائل، لتحقيق أهدافها المشروعة. وقد اختار القادة العرب، منذ أكثر من ستين عاماً، منظمة التحرير الفلسطينية، لتكون الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وعلى أساس الميثاق الذي أقرته مؤتمرات المجلس الوطني، وهيئاته التنفيذية. والمؤمل أن يكون السبيل إلى ذلك، هو تحقيق انتخابات حرة ونزيهة، وبإشراف محايد، للتوصل إلى صيغ عملية، لتحقيق الوحدة الفلسطينية، وإنهاء حالة الانقسام، الذي يستخدمها المحتل دائماً للتهرب من استحقاقات الفلسطينيين. وعندها فقط نكون على الطريق الأقرب والصحيح من تحقيق الصبوات الفلسطينية، في الحرية والاستقلال.

(الخليج الإماراتية)

يتم التصفح الآن