الوضع في غزة يزداد سوءًا بكل ما للكلمة من معنى. ففي الميدان تصعيد لعملية "عربات جدعون" العسكرية بهدف قضم المزيد من أراضي القطاع واطلاق يد اسرائيل بهدف تهجير الفلسطينيين الذين يجدون أنفسهم يوميًا في مواجهة أوامر الاخلاء والنزوح دون وجود مكان آمن. فالشوارع والمساجد والمستشفيات وحتى خيم النازحين عرضة للقصف الاسرائيلي الذي يُمعن بإجرامه ووحشيته رغم الانتقادات الدولية الآخذة بالتزايد والتوسع. ناهيك عن المساعدات التي "تبتز" فيها تل أبيب اهالي القطاع وتجعلها ورقة مساومة بيدها بعد كف يد وكالة "الأونروا" ونفاذ مخزون المؤسسات الدولية والمنظمات الاغاثية العاملة في غزة.
فمشاهد الجوع والسعي نحو تأمين لقمة لسد رمق الجياع تترافق مع صور أخرى عن اطفال يعانون من سوء تغذية حاد نتيجة الحصار المشدّد وشح المواد الغذائية من الاسواق وغياب الادوية والمتممات الصحية. وبظل التضارب الحاصل بشأن "مؤسسة غزة الانسانيّة" التي ستوكل اليها مهمة "اطعام الغزاويين"، يعيش القطاع على شفا مجاعة حقيقية ويراقب بخوف الالية الجديدة لتوزيع الامدادات خاصة بعدما تعالت العديد من الاصوات الناقدة لها ومن بينهم المدير التنفيذي السابق للمؤسسة جيك وود، الذي قدم استقالته احتجاجًا على ما وصفه بغياب الاستقلالية. هذا وكانت المؤسسة أعلنت عن بدء عملها أمس، الاثنين، وتعيين جون أكري مديرًا تنفيذيًا مؤقتًا لها فيما الوقائع الميدانية وتصريحات السكان ناقضت هذه الإدعاءات خاصة ان تل ابيب، وبعد الضغط الدولي المُكثف، وافقت على ادخال المساعدات ولكن الكميات التي سمحت بها كانت "محدودة" ولم تلبِ حاجات مليوني فلسطيني.
وهذه المعطيات الميدانية وارتفاع اعداد الشهداء والمصابين تأتي بالتزامن مع وجود "أمل ضئيل" بالتوصل الى اتفاق لوقف النار بضغط أميركي بعد تحريك "المفاوضات الراكدة" اثر توقفها في وقت سابق نتيجة وصولها الى حائط مسدود. ورغم ان حركة "حماس" ابدت ليونة لجهة تنازلها عن شرط الوقف الدائم للنار وقبولها باتفاق جزئي يقضي بإطلاق سراح 10 أسرى إسرائيليين أحياء من المحتجزين لديها على دفعتين، مقابل هدنة لمدة 70 يومًا والانسحاب الجزئي التدريجي من قطاع غزة، وإطلاق سراح أعداد من الأسرى الفلسطينيين بينهم عدة مئات من أصحاب المحكوميات العالية والمؤبدات، الا ان الجانب الاسرائيلي اعتبر أن المقترح الذي طرحه المبعوث الاميركي الى الشرق الاوسط ستيف ويتكوف يتناقض مع الرد الذي قدمته الحركة الليلة الماضية للوسطاء.
بدوره، صرح ويتكوف بأت "اتفاق وقف النار وتحرير الأسرى في غزة مطروح حاليًا على الطاولة، مع مسار لإنهاء الحرب وحث "حماس" على قبوله. ويتضمن الاقتراح إطلاق سراح نصف الأسرى الأحياء ونصف القتلى مقابل هدنة مؤقتة قبل بدء المفاوضات للتوصل إلى اتفاق شامل لإنهاء الحرب، بحسب ما نقلته شبكة "سي إن إن". الا ان معضلة هذا الاقتراح انه يرفض تحديد مدة الهدنة المؤقتة، وهي مسألة جوهرية لدى الحركة التي تسعى لابرام صفقة فورًا بهدف ادخال المساعدات ووقف مخطط احتلال غزة. ووسط هذا التضارب في المعلومات، نقلت "القناة 12 الإسرائيلية" عن رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو قوله "آمل أن أزف لكم بشرى بشأن الرهائن"، وأضاف أن "إطلاق سراح الأسرى من صميم أولوياتنا وآمل أن نتمكن من الإعلان عن شيء بهذا الشأن اليوم أو غدًا".
من جهتها، طالبت عائلات الأسرى الإسرائيليين المحتجزين لدى "حماس" بإطلاعها على المستجدات المتعلقة بالاتفاق، لاسيما انها تعول على دور اميركي من اجل التوصل لصفقة تعيد الرهائن بعد فتح قناة تواصل مباشرة بين الحركة وواشنطن بعيدًا عن اسرائيل. ومع ما تقدم، لا تلوح في الافق اي مؤشرات حقيقية لتقدم "ايجابي" في هذا المسار مع تعنت نتنياهو واختلاقه الحجج للتنصل والتهرب من أي اتفاق لاعتباره ان الواقع الحالي يعزّز مكانة اسرائيل في المفاوضات ويعطيها الحصة الوازنة بعد التغيرات التي أنجزتها العملية العسكرية على الارض. ولا تقف تعديات اسرائيل ومطامعها التوسعية في غزة بل تتعداها الى الضفة الغربية التي تشهد على أكبر موجة تهجير للسكان بعد التصعيد العسكري للقوات الاسرائيلية الذي يترافق أيضًا مع تعاظم الانتهاكات والحركات الاستفزازية حيث اقتحم، أمس، وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير ومئات المستوطنين المتطرفين المسجد الأقصى، بحماية مشدّدة من الشرطة الإسرائيلية.
في سياق متصل، تتواصل صواريخ الحوثيين على اسرائيل حيث أعلن صباح اليوم عن التصدي لصاروخ أطلق من اليمن ما أدى الى تفعيل صفارات الانذار في عدة مناطق. ويربط الحوثيون بين وقف عملياتهم على تل أبيب وما يجري في قطاع غزة من أحداث دراماتيكية متسارعة. ولم يشمل الاتفاق الذي أبرم بين واشنطن والحوثيين، في وقت سابق، اسرائيل، ما اعتبر حينها مؤشر على تصدع العلاقات الاميركية - الاسرائيلية بعد اتخاذ ترامب سلسلة قرارات لم تراعِ مطالب نتنياهو ومطامعه وأبرزها ما يجري على صعيد المباحثات النووية بين واشنطن وطهران بوساطة عُمانية. فتفضيل الدبلوماسية على الحلول العسكرية لا تزال تسيطر على هذه المفاوضات التي تشهد تقدمًا طفيفًا بسبب وجود العديد من النقاط الخلافية.
ولوّح الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان بـ"خطة بديلة" في حال فشل التوصل الى اتفاق قائلاً: "سنجد وسيلة للصمود والتغلب على العقوبات والمشكلات". وتكمن العقدة الرئيسية اليوم، والتي تحول دون تحقيق اي اختراق، في رفض طهران الكلي لوقف تخصيب اليورانيوم فيما تضغط ادارة ترامب في هذا الاتجاه ملوحة بزيادة "الضغوط القصوى" التي اعاد الرئيس الاميركي تفعيلها منذ عودته الى البيت الابيض. وتقبع ايران في ظروف اقتصادية ومعيشية صعبة تدفعها للتفكير الجدي بابرام صفقة بظل التبدلات الاقليمية والتحولات الجارية في المنطقة والتي ادت الى تغير جذري في موازين القوى ولم يصب في صالح طهران بعد الضربات الاسرائيلية التي استهدفت "حزب الله" في لبنان وسقوط نظام بشار الاسد في سوريا.
وقد شكل هذا السقوط ضربة قاصمة للمشروع الايراني الذي لطالما وجد في دمشق فرصة لزيادة تغلغله وخط امداد رئيسي للسلاح. وتسير سوريا نحو خطوات جديدة وتفتح امامها فرص ذهبية بعد رفع العقوبات الاميركية والاوروبية بشكل رسمي ما يعني زيادة الفرص الاستثمارية والمشاريع الاقتصادية التي ستمكنها من نفض غبار الحرب والانطلاق نحو مستقبل واعد. ويشكل العامل الامني التحدي الابرز امام الادارة السورية الجديدة التي تسعى لضبط الاوضاع والقضاء على من تبقى من فلول "داعش" حيث أعلنت، أمس الاثنين، عن عملية أمنية وصفتها بأنها "نوعية ودقيقة ومحكمة" وتمكنت خلالها من اعتقال عدد من عناصر التنظيم في ريف دمشق الغربي وضبط كميات من الأسلحة الخفيفة والمتوسطة والثقيلة، منها قواعد صواريخ وعبوات ناسفة وسترات انتحارية.
وكما سوريا ينشط لبنان لارساء الاستقرار والامن، فبعد انجاز استحقاق الانتخابات البلدية والاختيارية بمراحله الاربعة بنجاح، تنطلق مرحلة مختلفة بعد الحديث الجدي عن سحب سلاح الفصائل الفلسطينية داخل المخيمات وخارجها وهو ما أبلغه الرئيس اللبناني جوزاف عون رسميًا الى وفد من الكونغرس الأميركي برئاسة السيناتور آنغوس كينغ، والذي التقاه في قصر بعبدا حيث أكد أن المرحلة الأولى "سوف تبدأ منتصف الشهر المقبل في 3 مخيمات فلسطينية ببيروت". أما سلاح "حزب الله" فيشهد أيضًا خطوات عملية يسعى اليها الرئيس عون ولكن دون ان يتم المباشرة بها بالتوازي مع زيادة التعديات الاسرائيلية على الاراضي اللبنانية. ويرفع الحزب شروطًا مقابل الموافقة على معالجة موضوع سلاحه ومنها الانسحاب الاسرائيلي الكامل من الأراضي اللبنانية المحتلة وإعادة الأسرى ووقف الخروقات، وهو ما سيكون محط تداول لبناني دولي في الفترة المقبلة.
الاوضاع اللبنانية والفلسطينية كانت مدار اهتمام عناوين الصحف العربية الصادرة اليوم. وفي جولتنا الصباحية نتطرق الى ابرز المقالات والافتتاحيات وهي:
رأت صحيفة "الخليج" الاماراتية أنه "واذا تمت عملية جمع السلاح الفلسطيني من المخيمات بنجاح، وهي تحتاج إلى بعض الوقت، تكون المخيمات ولأول مرة منذ مطلع السبعينات قد وضعت في إطار السيادة اللبنانية وليست جزراً أمنية معزولة"، مشددة على أنه "ومع جمع السلاح من المخيمات يكون لبنان قد دخل مرحلة جديدة من بسط سيادته على كامل أراضيه، ويبقى أن تلتزم إسرائيل بتنفيذ القرار 1701 بكل بنوده، وتوقف اعتداءاتها اليومية وتنسحب من كل المناطق التي احتلتها مؤخرًا، والتي كانت احتلتها من قبل".
وضمن السياق، شددت صحيفة "الجريدة" الكويتية على أن "العنوان الأساسي في هذه المرحلة يتركز على السلاح وضرورة سحبه، بالإضافة إلى منع تهريبه إلى لبنان لمنع "حزب الله" من إعادة بناء قدراته العسكرية". ونقلت عن مصادر متابعة اشارتها الى أن لبنان مطالب بـ "تسريع خطواته باتجاه سحب السلاح، وهذه المرة سيتم وضع مهلة زمنية لذلك، لأنه لا يمكن التخلف عن مسار تطورات الأوضاع في المنطقة، وإلا فإن لبنان سيكون خارج كل الاتفاقات والاستثمارات، ولن يكون قادرًا على الاستفادة منها. كما تتحدث مصادر متابعة عن إصرار أميركي على إعادة طرح فكرة "السلام".
وفي الشق الفلسطيني، لفتت صحيفة "عكاظ" السعودية الى أن "إسرائيل بدأت تفقد تأثير السرديات التي كانت تستخدمها لتبرير جرائمها في غزة، وهي في حالة انكشاف تام أمام العالم، خصوصًا الدول الأوروبية التي تدعمها معنويًا وسياسيًا"، معتبرة أيضًا أن "المبالغ الاستثمارية الضخمة التي حصلت عليها أمريكا مؤخراً خلال زيارة الرئيس ترامب للمملكة وقطر والإمارات أهم بالنسبة لها من التأييد المطلق لدولة عدوانية (اي اسرائيل) تسبب القلق في المنطقة، ولذلك يكون مفيدًا لأمريكا إعادة صياغة شكل العلاقة الأمريكية - الإسرائيلية بحيث تنسجم مع مصالحها الكبيرة في منطقتنا".
من جهتها، أوضحت صحيفة "الوطن" البحرينية أن "إسرائيل تعمد إلى إفشال كل جهود السلام العربية والدولية المبذولة لوقف النار في غزة وبشكل دائم، خاصة بعد زيارة الرئيس دونالد ترامب للخليج العربي"، داعية "الولايات المتحدة، لتضغط على إسرائيل وتمنعها من التمادي أكثر وإلزامها بتوقيف سياسة التجويع التي تفرضها فوراً، وأن يتم السماح بإدخال المساعدات بشكل عاجل، وبأكبر كمية ممكنة"، كما طالبت جامعة الدول العربية ببذل المزيد من الجهود والمساعي لاستمرار الدفع بتنفيذ المبادرات العربية الداعمة لحقوق الشعب الفلسطيني.
أما صحيفة "الأهرام" المصرية، فجزمت بأن "الإصرار على نزع سلاح المقاومة يحمل مؤامرة شريرة، هدفها تصفية القضية الفلسطينية وتهجير أهل غزة وقيام دولة إسرائيل الكبرى". واضافت "ما يدور الآن في الكواليس السياسية حول غزة لا يمكن أن يكون فى مصلحة الشعب الفلسطيني، لأنه استكمال لتصفية القضية..وان غزة لن تستسلم وكل شبر في أرضها لن يقبل التهجير، والشعب الذي صمد حتى الآن أمام وحشية القتلة سوف يبقى في ارضه ولن يتركها"، على حدّ قولها.
بدورها، قالت صحيفة "الغد" الاردنية "نجحت حكومة نتنياهو في التحايل على كل الجهود الدبلوماسية لوقف الحرب الدائرة في غزة، وجولات التفاوض في الدوحة والقاهرة، واحتواء دور المبعوث الأميركي"، مؤكدة أن "الأسابيع المقبلة تشكل فرصة مواتية لتكثيف الجهود الدبلوماسية لإقناع الإدارة الأميركية بعدم إضاعة الوقت، ووقف حمام الدم في غزة، لأن ما من طريق للتفاهم على مستقبل القطاع، دون وقف إطلاق النار أولًا".
(رصد "عروبة 22")