في الخريف المقبل، ربّما سترسم العلاقات الروسية - العربية ملمحًا جديدًا، ذلك أنّ الوجود العربي الجماعي في موسكو، والتفاعل مع المستهدفات الروسية قد يحمل مؤشرات على عددٍ من المستويات؛ الأوّل هو المستوى العالمي إذ إنّ ملامح عالم متعدّد الأقطاب باتت واقعًا مُعاشًا، خصوصًا بعد تشكُّل ملامح لتوازنات القوى العالمية النّاتجة عن الصراع الروسي - الأوكراني، بحيث لم يُحقق التوظيف الغربي لكييف ضدّ روسيا أغراضه في تقزيم روسيا، بل على العكس من ذلك فإنّ الاتجاه نحو الإقرار بوجود مصالح روسية في شرق أوكرانيا وهو ما يترتّب عليه الإٍقرار بتبعيّة مساحات من شرق أوكرانيا لروسيا "فهي تتكلّم الروسية" طبقًا لما قاله ترامب في وقتٍ سابق.
باتت ديناميّة موسكو مع العالم العربي براغماتية فضلًا عن وجود قواسم مشتركة في تقدير المخاطِر في الشرق الأوسط
ربّما يكون من المهم في هذا السياق رصد أنّ الفاعل الروسي في المنطقة العربية قد جاء هذه المرّة مُتحرّرًا من القيود الإيديولوجية التي قيّدت سلفه السوفياتي فباتت ديناميّة موسكو اليوم مع العالم العربي براغماتية على الجانب الروسي، مقبولةً على الجانب العربي على تنوّعه، فضلًا عن وجود قواسم مشتركة في تقدير المخاطِر الموجودة في منطقة الشرق الأوسط، حيث هناك اتفاق روسي - عربي على خطورة الظاهرة الإرهابية وتداعياتها على الدولة الوطنية، وكذلك تصنيف فصائل الإسلام السياسي تصنيفًا سلبيًا للغاية خصوصًا جماعة "الإخوان المسلمين" وذلك عطفًا على تجربة روسيا المؤلمة في الشيشان.
الملامح المُتوقّعة للأهداف الروسية من قمّة العرب في موسكو سوف تطرح عددًا من الاهتمامات الاستراتيجية الروسية التي من المطلوب النقاش بشأن محدّداتها ولعلّه يُتوّجها النقاش في مسألة مدّ خط غاز قطري يتمّ تصديره من سواحل المتوسط السّورية إلى أوروبا، إذ إنّ هذه الخطوة من شأنها أن تحجّم الوزن الروسي في الحسابات الأوروبية، فتصبح أوروبا قادرةً على تنويع مصادرها من غاز التدفئة، وبالتّالي تحسين موقفها التفاوضي في شأن الغاز الروسي وذلك على الصعيدين الاقتصادي والجيوبوليتيكي، ومن شأن هذا التطوّر أن يجعل روسيا أكثر احتياجًا لأوروبا وليس العكس على اعتبار أنّ تصدير الغاز الروسي إلى أوروبا هو الأقل كلفةً ماليًّا لروسيا وأيضًا الأعلى عائدًا.
لا تمتلك روسيا مشروطيات كتلك الغربية في التفاعل مع دول المنطقة العربية
في الاهتمامات الروسية أيضًا إعادة تموْضع روسيا مع دول الخليج خصوصًا في ضوء أمرَيْن؛ ضعف وزنها النّسبي في سوريا وطبيعة تحالفها مع إيران، وذلك تحت مظلّة تفاهم روسي - أميركي بشأن تقديم كلّ منهما للآخر تسهيلات في الملف الذي يهمّه، فمن ناحية تضطلع واشنطن بدورٍ لصالح روسيا في إنهاء الحرب الروسية - الأوكرانية، فيما تضطلع موسكو بدورٍ في تطوير الموقف الإيراني ليكون أكثر ليونةً ربما في الملف النووي ليتمّ إنجاز اتفاقٍ بهذا الشأن.
التفاعل الروسي مع الجمهوريات العربية يملك أبعادًا إضافيةً إذ إنّ روسيا ترغب في المحافظة على الهياكل القائمة للدول حاليًّا في الشرق الأوسط، فهي ضدّ التدخّل الخارجي طبقًا للنموذج الليبي أو أي أنماط تغيير أخرى للسلطة السياسية تكون قائمةً على هبّاتٍ جماهيريةٍ قد تتسبّب طبقًا للمنظور الروسي في سيولةٍ أمنيةٍ مُهدِّدةٍ للأمن المحلي والإقليمي والدولي، حيث لا تمتلك روسيا مشروطيات كتلك الغربية في التفاعل مع دول المنطقة العربية.
وقد أتاح نمط التعاون الروسي مع العرب في الفترة السابقة قدرةً على تصدير الأسلحة الروسية خصوصًا لدول شمال أفريقيا العربية حيث تحتلّ الأسلحة الروسية وزنًا مُهمًا في مصادر تسلّح مصر والجزائر خصوصًا، وهو الأمر الذي ينعكس بطبيعة الحال على الاقتصادات الروسية، مع فتح سوق جديدة للصناعات العسكرية والأسلحة الروسية، التي تُعدّ من أهم أركان الاقتصاد الروسي.
ضرورة أن يكون التعاون العربي - الروسي محلّ نقاش عربي يسبق القمّة بما يحقّق تعاظم مكاسب العرب مجتمعين
على الصعيد العربي يبدو لنا أنّ المحدّدات العربية في التعاون مع روسيا هي متنوّعة وقد تكون متناقضةً في بعض الملفات، وهو ما سوف يكون جليًّا في القمّة العربية - الروسية المرتقبة الخريف المقبل.
وطبقًا للخرائط العربية الرّاهنة فإنّ التفاعلات العربية مع روسيا على المستوى الجيوبوليتيكي سوف يحكمها تقديرات بعض العرب الذين يقرأون ديناميّة النظام الدولي حاليًا من زاوية أنّه بات متعدّد الأقطاب وبالتّالي فمن المطلوب صناعة حالة من التوازن الدقيق والحذر بشأن التفاعلات مع هذه الأقطاب، بحيث يتمّ الحفاظ على مقتضيات الأمن القُطري لكلّ دولة، بينما سوف يحكم رؤية قسم آخر من العرب العلاقات الاقتصادية وفرص نموّها لتحقيق أعلى عوائد ربحيّة، ولعلّي أطرحُ في هذا السياق ضرورة أن يكون التعاون العربي - الروسي محلّ نقاش عربي يسبق القمّة الروسية - العربية لوضع محدّدات و"أجندة" لهذه القمّة بما يحقّق تعاظم مكاسب العرب مجتمعين، مع بحث نوعٍ من التوافق في ملفات الاختلاف.
(خاص "عروبة 22")