التغييرات الجوهرية على الأوضاع في المنطقة العربية، شملت الاتفاق على إلغاء مفاعيل اتفاق القاهرة للعام 1969 على أرض الواقع، وهذا الاتفاق الذي وُقِّع بين الحكومة اللبنانية ومنظمة التحرير الفلسطينية، كان يهدف لتنظيم العمل الفلسطيني في لبنان، ويسمح بالاحتفاظ بالسلاح المقاوم داخل المخيمات، وتمَّ إلغاؤه قانونياً من قبل الجانب اللبناني في العام 1987، لكن السلاح بقي منتشراً بأيدي المنظمات الفلسطينية المختلفة، وليس في أيدي القوى المُنضوية في منظمة التحرير الفلسطينية فقط، كما نصَّ الاتفاق، وقد أستُغِلَّ بعضه لأهداف ليس لها علاقة بالنضال الفلسطيني، وحصلت اشتباكات مسلحة متكررة داخل المخيمات وخارجها.
زيارة رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس إلى بيروت في 21 أيار/مايو 2025، كانت مدروسة، ونتائجها مُعدَّة سلفاً، وخُلاصة ما اتفق عليه مع رئيس الجمهورية جوزيف عون ومع رئيس الحكومة نواف سلام، تطبيق شعار حصر السلاح بيد الشرعية اللبنانية في المخيمات الفلسطينية، وبالتالي منع كل أشكال الأعمال الحربية من الجانب اللبناني ضد إسرائيل (كما ينص عليه اتفاق الهدنة للعام 1949)، وضبط الانفلاش الذي يُستغلُّ لزعزعة الأمن في لبنان، ولخدمة أجندات خارجية، مقابل زيادة الرعاية الحكومية اللبنانية للاجئين الفلسطينيين، وضمان أمنهم على الأراضي اللبنانية، قبل عودتهم إلى أرضهم في فلسطين بموجب القرار الأممي 194.
لا يمكن التخفيف من أهمية القرار الفلسطيني ـــ اللبناني المشترك بسحب الغطاء السياسي بالكامل عن السلاح الفلسطيني في لبنان، وعلى هذا السلاح مآخذ لا تُعدّ ولا تُحصى خلال السنوات الماضية، والبعض يُحمِّله مسؤولية اندلاع الحرب الأهلية وتفاقُمها منذ العام 1975، وفي مثل هذا التشخيص شيء من التجنِّي عليه. القرار يأتي في لحظة سياسية وأمنية مفصلية في لبنان، لأن ضبط السلاح بيد الدولة اللبنانية مطروح بقوة، وهو سيشمل الجميع، بمن فيهم حزب الله الذي التزم بالبيان الوزاري لحكومة نواف سلام الذي أكد تلك المهمة جهاراً، كما أكده تفاهم وقف إطلاق النار مع إسرائيل الذي وافق عليه الحزب في 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2024.
إسرائيل التي تستمرّ بعدوانها على الفلسطينيين واللبنانيين، تأخذ من السلاح المتفلت ذريعة لهجماتها، لا سيما بعد إطلاق الصواريخ المجهولة من جنوب لبنان في آذار/مارس الماضي، وجمع السلاح بيد الدولة يسحب منها هذه الذريعة، كما يحفظ للبنان كيانه المستقل، وسيادته على كامل أراضيه، ويمنع استخدامه في صراعات مؤلمة، وغير متوازنة، استفاد منها الأعداء أكثر مما استفاد اللبنانيون والفلسطينيون. والفوضى في الدول المحيطة بإسرائيل تُقدِّم خدمة كبيرة لها، وهي تعمل عليها منذ سنوات طويلة، بينما هي تخاف من بناء دول مُتماسكة وجيوش نظامية مدعومة من الشعوب على الحدود التي لا تريد ترسيمها بشكلٍ كامل، طمعاً بمتغيرات توفر لها فرصة لتحقيق مزيد من الهيمنة والاحتلال.
الخطوة الفلسطينية الجديدة باتجاه تسهيل مهمة العهد اللبناني الجديد، لها أهميتها الاستراتيجية، كونها تلغي بالكامل عناصر الصراع السابقة، وتؤسس لمفاهيم جديدة من النضال. ومحاكمة العناصر التي أطلقت الصواريخ خفيةً من جنوب لبنان على إسرائيل في آذار/مارس الماضي، أبرزت جدية الحكومة اللبنانية في منع أي إخلال بالاستقرار، وهي وجهت إنذاراً صريحاً لمناصري حركة "حماس" بمنع أي نشاط لهم على الساحة اللبنانية إذا ما تمادوا في الإخلال بالاتفاقات المعمول بها، والحكومة اللبنانية التي التزمت مساندة القضية الفلسطينية، وأيدت المبادرة العربية التي تقضي بحلّ الدولتين، لن تتسامح مع الذين يتجاوزون القرارات الدولية ذات الصلة، ولبنان دفع أثماناً باهظة جراء التجاوزات التي حصلت، وهو غير قادر على تحمُّل المزيد على الإطلاق.
في الحسابات الاستراتيجية لزيارة عباس والوفد المرافق إلى بيروت، تحولات سياسية واسعة، ومرامٍ إقليمية مواكبة للتغييرات الهائلة التي حصلت، وإضاءة على أحقية القضية العادلة للشعب الفلسطيني، كونها حجر الأساس للاستقرار في المنطقة، ومن دون حل عادل لهذه القضية، لا يمكن توفير بيئة حاضنة للسلام الموعود. الشعب الفلسطيني تحمَّل ما لم يتحمله أي شعب آخر من القهر والعذاب والعدوان، والتهوُّر والانفلاش كان أحد أسباب هذه العذابات، واستفادت منه إسرائيل لتبرير مظالمها المُتوحشة، وما حصل في قطاع غزة منذ عام ونصف العام خير دليل على هذه المشهدية القاتمة، فالانقسام الفلسطيني، خصوصاً بين ضفتي أراضي السلطة الفلسطينية، كان لمصلحة إسرائيل، وهذه الأخيرة استغلَّت بعض العمليات المتهورة للتنكيل بالمدنيين الفلسطينيين وبمؤسساتهم التربوية والاستشفائية والخدماتية، ودمَّرت منازلهم وبناهم التحتية في قطاع غزة، بعد أن شيدوها بالإصرار والتصميم وعرق الجبين.
القضية الفلسطينية، قضية حق لا يموت، وهي لا تحتمل المساومة أو التأخير، وربطها بمصالح محاور إقليمية، كان خطأً جسيماً، فهل تكون بداية تصحيح الخطأ من الساحة اللبنانية التي دفعت فواتير مُرهقة من أجل هذه القضية خلال ما يزيد على 75 عاماً أعقبت سنوات النكبة الأولى؟
(الخليج الإماراتية)