هذه الخطوة الأميركية، جزءٌ من تأهيل النظام السوري الجديد الضروري لإعادة رسم وهندسة تضاريس المنطقة الشديدة الالتهاب، والمليئة بالصّراعات المفتوحة على حروبٍ لم تضع أوزارها بعد، وتجد أبعادها الاستراتيجيّة كما شرحها باراك، في أنّ هدف ترامب هو تمكين الحكومة السورية الحالية، وفي التحضير لتوقيع اتفاقية "عدم اعتداء" بين سوريا واسرائيل، وفي أنّ مهمّة القوات الأميركية في سوريا تكمن في القضاء على "داعش".
وتأكيدًا لانخراطها في المسار الجديد، عملت حكومة أحمد الشّرع على تلقّف المطالب/الشروط الأميركية، فنفّذت سلسلة إجراءاتٍ لتنظيم وضع الفصائل العسكرية بهدف دمجها ضمن الجيش السوري الجديد. وفيما أشيع عن إعلان فصائل عدّة، بينها "الحزب الإسلامي التركستاني"، عن حلّ نفسها، سُجّل سلوكٌ مخالفٌ لفصائل أخرى.
يرجّح أنّ المواجهة العسكرية مع الحكومة السورية لن تقتصرَ على "داعش"
ويستبطن القضاء على "داعش" تحدّياتٍ كبيرةً بوجه حكومة الشّرع، أبرزها أنّ "داعش" لا يترك مناسبةً إلّا ويُشهر فيها العداء للشّرع وحكومته التي "سارت في ركب الأميركيين والتحالف الصّليبي". وتشير الوقائع الميدانية إلى أنّ "داعش" بدأ تنفيذ عملياته ضدّ فصائل الحكومة السورية وآخرها استهدافه حواجز للأمن العام بالقرب من مطار حلب تزامنًا مع زيارة الرئيس السوري إليها، واستهدافه موقعًا لـ"جيش سوريا الحرّة" في منطقة "تلول الصفا" في بادية السويداء والذي أدّى لمقتل شخصٍ وإصابة 3 آخرين، بعدما كانت عملياته مركّزة بشكلٍ شبه يوميّ ضدّ "قوات سوريا الديموقراطية". ويرجّح أنّ المواجهة العسكرية مع الحكومة السورية لن تقتصرَ على "داعش"، ما يطرح أسئلةً عميقةً حول فصائل أخرى بينها تنظيم "أنصار السنّة" الذي يرفع لواء محاربة المذاهب والطوائف الأخرى!.
خريطة الفصائل العسكرية وأدوار بعضها في ما عُرف بأحداث الساحل السوري، كانت محل عقوبات الاتحاد الاوروبي ومنها فرقة "السلطان سليمان شاه" وفرقة "الحمزة" وفرقة "السلطان مراد" والعميد محمد الجاسم (أبو عمشة) قائد الفرقة 62 في الجيش السوري الجديد بعدما حلّ تشكيله العسكري، والعميد سيف بولاد (أبو بكر) والذي أصبح بعد حلّ فصيله العسكري قائد الفرقة 76.
والمتفحّص لعقوبات الاتحاد الاوروبي يكتشف أنّ المعاقَبين أوروبيًا كفصائل وأشخاص، هم من المُوالين لتركيا، ما يعني غمزًا أوروبيًا من قناة وسياسات أنقرة في سوريا عامةً وفي الساحل السوري خاصّة. كما أنّ المتفحّص أيضًا للعقوبات الأوروبية، يكتشف أنّها لم تشمل التنظيم المُوالي لتركيا أيضًا "بركان الفرات" والذي تبنّى مسؤولية الهجوم على القاعدة الجوية الروسية في "حميميم"، وأصدر نعيًا لاثنين من مقاتليه، ضمّنه مطالبة القوات الروسية بمغادرة سوريا خلال شهر، ومطالبة موسكو بتسليم الرئيس السابق بشّار الأسد لمحاكمته في دمشق.
"الإبادة الجماعية" تنتقل إلى الضفّة الغربيّة وربّما لبنان الذي لم تتوقّف عنه الضغوط المُطالِبة بنزع سلاح "حزب الله"
توازيًا مع التمييز الأوروبي بين الفصائل السورية، يجدر التنويه، أنّ عملية "بركان الغضب" الذي حضرت مجموعاته من خارج الساحل لتنفيذها، بدت بمثابة الردّ السّريع على البيان المنسوب للواء السابق سهيل الحسن الذي عرّف نفسه بـ"القائد الأعلى لقوات إقليم الساحل" أي الذّراع العسكرية لمشروع "الإقليم" وتوعّد فيه بـ"الثأر ممّن أجرموا بحقّ أهالي إقليم السّاحل السوري"، والذي سقطت التسوية حوله بين القيادة السورية والملياردير السوري رامي مخلوف. وفي بيانٍ مسهبٍ، بَيَّنَ مخلوف مراحل وإخفاقات "التسوية المُجحفة" ما دفعه إلى رفع لغة التصعيد على شكل "تنبّؤات" بأحداث واشتباكات متنوّعة ستشهدها سوريا، وستتوّج بتكريس "الإقليم".
إنّه "الاقليم" المحاذي جنوبًا للبنان، وشمالًا لتركيا التي تستشعر منه تهديدًا للمصالح الاستراتيجية وامتداداتها الدّينوغرافية. من هنا يمكن فهم مُسارعة "بركان الفرات" المُوالي لتركيا، إلى استهداف قاعدة "حميميم" كرسالةٍ غير مشفّرة لروسيا من قبل أنقرة التي يبدو أنها نجحت في تعديل خطوط النّفوذ مع إسرائيل في سوريا وحولها، وفق المحادثات التي شهدتها العاصمة الأذربيجانية "باكو" بحضور ممثلين عن الحكومة السورية التي استجابت لمطالب تركيا في الإفراج عن وثائق ومتعلّقات الجاسوس الإسرائيلي الشهير إيلي كوهين، كبادرة حسن نيّة من شأنها تعزيز الاستقرار و"بناء الثقة" مع إسرائيل، وهو ما انعكس تخفيفًا واضحًا لحركة الطائرات الإسرائيلية في الأجواء السورية.
تكمن أهمية هذه القراءة، في كشف بعض ملامح تعقيدات وتحدّيات المشهد السوري، والتي لا يمكن الرّكون إليها بعيدًا عن تطوّرات الوضع الخطير في غزّة، وتجاوزه توصيف "الإبادة الجماعية" التي وكأنّها تنتقل إلى الضفّة الغربيّة، وربّما لبنان الذي لم تتوقّف عنه ضغوط الغارات الاسرائيلية وتلك المُطالِبة بنزع سلاح "حزب الله" الذي من دونه لن يُفرج عن مشاريع الاستثمار وإعادة الإعمار.
هل يعقد ترامب صفقاته من مضيق هرمز إلى غزّة أم أنّ نتنياهو سيتمسّك بعدم تفويت فرصة ضعف إيران؟
في هذه اللحظة السياسية الحرجة، تشتدّ الضغوط الترامبية على بنيامين نتنياهو لإبرام صفقةٍ حول غزّة من جهة، ولتحقيق اختراقٍ في المفاوضات النووية الأميركية - الإيرانية من جهةٍ أخرى، وأكثر وأقصى ما جحّظته الضغوط الأميركية على نتنياهو، تكمن في مطالبة ترامب للبنتاغون وقيادة الجيش الأميركي بوقف التنسيق مع إسرائيل لتوجيه ضربةٍ عسكريةٍ لإيران التي يبدو أنها أخذت بنصيحة السعودية بـ"تلقّف العرض التفاوضي الترامبي على اتفاقٍ نووي كوسيلةٍ لتجنّب خطر الحرب مع إسرائيل".
وفي حال انتصبت الرّقصة النووية الترامبية - الخامنئية، هل يعقد ترامب صفقاته المعروفة من مضيق هرمز إلى غزّة، بعيدًا عن إسرائيل، أم أنّ نتنياهو سيتمسّك بعدم تفويت فرصة ضعف إيران وإضاعتها؟.
(خاص "عروبة 22")