مراجعات

"في مغالبة التيّار": الخلل العربي البنيوي في مفهوم السلطة!

لئن لا يمكن نفي وجود عديد المؤامرات المرتبطة بمأساة العالم العربي، فإنّ المنطق التاريخي يثبت وجود خللٍ بنيويّ مزمنٍ في مفهوم السلطة وآليّاتها. ويبدو كتاب "في مغالبة التيّار" الصادر عن مركز النشر الجامعي للبروفيسور التونسي أحمد الخصخوصي الأمين العام الأسبق لـ"حركة الديمقراطيين الاجتماعيين"، وعضو البرلمان التونسي قبل سنة 2011 وبعدها، وثيقةً تاريخيةً هامّةً شاهدةً على طبيعة ذلك الخلل البنيوي.

كتاب "في مغالبة التيار" كان في أصله مجموعة المداولات التي أدلى بها صاحبها خلال عضويته لأوّل برلمان تعدّدي في تاريخ تونس المعاصِر من سنة 1994 إلى سنة 1999. وهي محفوظة بالأرشيف الوطني، ومن ثمّة فهي تحتفظ بمصداقيتها التي عزّزتها النهاية الدراماتيكية لنظام بن علي، بما أنّها نبّهت السلطة قبل تسريب وثائق "ويكيليكس" سنة 2008 إلى مخاطِر الطريق المسدود الذي يسلكه نظامه.

بقدر ما يُحيل عنوان الكتاب على ضربٍ من ضروب الذّاتية، فإنّ مضامينه ركّزت على نقد تيّار الرداءة الجارف الذي تسلّل إلى جميع المجالات. ذلك أنّ مفهوم السّلطة في هذا السياق ينحصر في دائرة التسلّط والاستبداد والظلم ومصادرة الآراء المخالفة له، إذا كانت لا تنسجم مع منطق الغنيمة الموجّه لرؤيتها للدولة والمجتمع.

تفطّن الكاتب مبكّرًا إلى تراجع مؤشّرات التعليم التونسي

يذكر الكاتب عديد الأمثلة على ذلك. ففي المجال السياسي، يتمّ التلاعب بالقوانين وإفراغها من محتواها مثل ما حصل في جلسة مناقشة القانون الأساسي للبلديات يوم 11 يوليو/تموز 1995 إذ تمّ إحداث فصولٍ جديدةٍ توسّع صلاحيات الكتّاب العامّين، وتجعل المجالس البلدية المُنتخبة مكبّلةً بشتّى الإجراءات الإدارية. وهو ما يعني أنّ ذلك المشروع "في مجمله، وفي منطقه التراجعي متعلّق شديد التعلّق بالنظر إلى حقبة الستّينات إعجابًا وإتمامًا، عازفًا عن الاتّجاه إلى القرن الحادي والعشرين على سبيل التبصّر بالمخاطِر المُحدقة أو الاستعداد للتحدّيات القائمة والمقبلة".

يندرج ضمن تلك الرؤية الاستشرافيّة تأكيد الكاتب على عقم خيار استيراد النماذج الفرنسية من قوانين وغيرها، بحكم أنّ تلك النماذج قد أُفرغت من جوهرها. وقد عبّر النائب الخصخوصي بجرأةٍ في جلسة مناقشة الفقرة الأولى من الفصل 75 من الدستور يوم 31 يوليو/تموز 1998 عن توجّسه من تشكّل المجلس الدستوري. وقد أثبتت الأحداث اللّاحقة صحّة ذلك التوجّس، إذ أصبحت قرارات المجلس الدستوري ملزمةً لجميع السلط العمومية وغير قابلة للطعن على الرَّغم من اختلال تركيبته مقارنة بالنموذج الفرنسي الأصلي. وهو ما مكّن النظام السياسي وقتها من إضفاء شرعيةٍ دستوريةٍ على عديد الانتهاكات والخروقات.

وحذّر المؤلّف من خطورة عدم حيادية الدولة واستسهالها لسياسة اختراق الأحزاب والمنظّمات والنقابات، إذ بقدر ما أضعفت تلك السياسة الأحزاب المُعارضة مثلما حدث لـ"حركة الديمقراطيين" خلال تلك الفترة التي انتهت بتغليب أقلّية موالية للنظام لا يتجاوز عددها 13 عضوًا من جملة 98 عضوًا يُشكّلون مجلسها الوطني، فإنّها جعلت البلاد تسير في مسارٍ يناقض تمامًا منطق التاريخ والتحدّيات القائمة التي كانت تفرض تحييد الدولة بفصلها عن الحزب الحاكم لتكون دولة المجتمع لا دولة السلطة.

ظاهرة "الرّشوة" لا يمكن أن تعالج جزائيًّا فقط

انتبه المؤلّف كذلك إلى خطورة الارتجال وغياب رؤية تربوية واضحة في مجال التعليم والثقافة، إذ تفطّن مبكّرًا إلى تراجع مؤشّرات التعليم التونسي على مختلف الأصعدة. فأوضح في جلسة مناقشة ميزانية وزارة التربية يوم 23 ديسمبر/كانون الأول 1998، ثم في جلسة مناقشة وزارة التعليم العالي يوم 24 ديسمبر/كانون الأول 1998، أنّ تونس تراجعت في مستوى نسبة التمدرس وحجم الميزانية المخصّصة للتربية والتعليم مقارنةً حتّى بعديد الدول المغاربية والعربية. وشدّد على أنّ معالجة المسألة جذريًا أفضل من سياسة الهروب إلى الأمام من خلال إنهاك الخرّيجين الجامعيين نفسيًا وماديًا بمُناظرة الكفاءة لأساتذة التعليم الثانوي.

وقد أشار ضمن الرؤية نفسِها إلى أنّ ظاهرة "الرّشوة" لا يمكن أن تعالج جزائيًّا فقط لتقاطعها مع رؤية السلطة السياسية، واتّصالها الوثيق بمجالات مختلفة مادية وقيمية "هي في نهاية التحليل قيم اجتماعية تنتج من بين ما تنتج عن المنحى السياسي المتوجّه غالبًا".

ولئن كان المنطق السليم يفرض على النظام السائد وقتها الاستفادة من ذلك النقد، فإنّ ذلك لم يحصل وتم جلب الخصخوصي بالقوة للتحقيق معه على الرَّغم من حصانته البرلمانية، ثم محاولة رفع الحصانة عنه لمحاكمته. حدث كلّ ذلك على الرَّغم من أنّ كلًا من وزير العدل ورئيس مجلس النوّاب يتحدران من الأسرة التربوية والجامعية!.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن