خلال قراءتي للعمل الأحدث للروائي العراقي سنان أنطون "خُزامى" كنتُ مُوّزعة بين انطباعين، الأول؛ أنّ لغة الحوار المُترعة بالعامية العراقية تُضفي للتجربة القرائية مزيدًا من التماهي مع النصّ الجارف بأسئلة الهُوية العراقية، والآخر؛ هو أنّ الحوار يُعطّل انسياب النصّ أحيانًا مع التعثّر في فهم كثير من التعبيرات العراقية المحلية التي سادت النص، وهو أمر لا يمكن بشكل عام إخضاعه لذائقة قراءة واحدة.

ويمكن التعرّف على لمحة من استجابات القرّاء حِياله من خلال منصات القراءة كصفحة "جودريدز"، التي يمكن من خلالها رصد الاحتفاء بحضور "اللهجة" من جهة، ورصد اتجاهات أخرى لقارئ يُدوّن أنه لم يستطع مواصلة عمل بسبب إغراقه في العامية "المغربية"، على سبيل المثال، وآخر يشير إلى أنّ إحدى الروايات "العربية" تحتاج إلى ترجمة عربية، أو حسب تساؤل إحدى القارئات:"هل رواية فُلان موجّهة فقط للجزائريين؟".

لا يزال سؤال اللهجة العامية واستخداماتها في الحوار الروائي من الموضوعات التي تشغل الكتابة، وقادرة على خلق الانقسام حولها فيما يبدو تشبّثًا بالقومية في حضور الفصحى، وتمسّكًا في المقابل باللغة المَحكية العامية، فيما يظلّ سؤال الفن وتوظيفه للغة ومعُطياتها هو الأساس.

ففي ورشة للكتابة الإبداعية بالقاهرة في يوليو / تموز الماضي، حاضرت بها الكاتبة الكويتية بثينة العيسى، ضمن فعاليات مهرجان "دواير الثقافي"، اتّجهت إحدى النقاشات لسؤال لغة الحوار (عامية أم فصحى؟)، وفتح السؤال الجدل كعادته جدلًا واسعًا. إنحازت الكاتبة الكويتية للغة الحوار العامية، التي تراها أصدق وأبسط تعبيرًا عن شخوصها السردية وضربت أمثلة لاستخدامها وانحيازها للعامية الكويتية في أعمالها الروائية، فيما تساءل البعض عن تلك "المحدودية" التي ربما تُسقطنا العامية في فخها، مع عدم تلقيها من جانب جميع قُرّاء العربية بالسلاسة نفسها، خاصة كلما أغرقت تلك العامية في المحلية، وتشعّبنا في محليات خليجية ومغاربية وغيرها من المحليات، التي قد يضِل غير المتحدّثين بها في شِعابها.

أما الجانب الآخر من "المحدودية"، كما شارك الحضور، فهو البُعد الزمني وعنصر العمر الأطول للعمل، فملامح العامية تتغيّر يومًا بعد يوم، فعامية اليوم في مصر على سبيل المثال ليست هي عاميتها قبل عشر سنوات، وما كان يعتبره شباب الأمس "عامية" تخُص جيلهم، أصبحت بالنسبة لشباب اليوم "قديمة" لا وجود لها في معجم يومياتهم.

اعتبرت العيسى أنه، وبهذا المنطلق، فإنّ العامية تحمل في طياتها جانبًا "توثيقيًا" في حدّ ذاتها، لكيف كان يتحدث الناس في الزمن الروائي للعمل، فعامية اليوم كانت في إحدى مستوياتها هي فُصحى الأمس.

ويظلّ هذا الجدل من المواد التي لم تفقد بريقها بسبب استمرار الاختلاف عليها، منذ كلاسيكية بحث توفيق الحكيم عن لغة أدبية ومسرحية محكيّة كـ"أداة للتفاهم" تُقرّب بين شعوب اللغة العربية، وانشغال النقد إلى اليوم بكيفية توظيف نجيب محفوظ للعامية على لسان أبطاله التي تكاد تذوب في نسيج الفُصحى للرواية. والأمثلة كثيرة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن