أبرز هذه العوامل، قدرة النظام على فرض سيطرته الشاملة عبر أدوات مختلفة ومتناقضة في طبيعتها وفي ظروفها وفي أدائها وأهدافها، ومن جملتها الأحزاب والجماعات السياسية التابعة للنظام والنقابات والاتحادات الشعبية، التي أسّسها وكرّسها آلة ضبط وسيطرة بواسطة حزب "البعث" الحاكم وأجهزة المخابرات، والتي يُشرف عليها مباشرة رئيس النظام.
والعامل الآخر في قوة النظام، طبيعته العسكرية - الأمنية، التي عزّزها ونظّمها، واختبر وحشيّتها في مواجهة السوريين مرّات، أكثرها قسوة كانت حربه ضدهم في ثمانينات القرن الماضي، وتمّ اختبارها أيضًا في تدخّلات النظام مع الجوار، وخاصة لبنان ما بين 1975 - 2000، حيث احتلّ البلد، وأخضع اللبنانيين والفلسطينيين، وجعلهم صدى لسياسته ومواقفه.
احتوت مسيرة النظام حالات ضعف أكدت هشاشة قوّته
وبين عوامل قوة النظام، قدرته على ترتيب علاقاته الدولية والإقليمية، وجعل تناقضات أطرافها واختلافاتهم تصبّ في مصلحته، كما في علاقاته مع الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة قطبَي النظام الدولي الثنائي السابق. حيث كان يأخذ السلاح والمساعدات من السوفيات، وينفّذ سياسات تتوافق مع سياسات واشنطن وتحوز رضاها، وفي المستوى العربي والإقليمي، كان للنظام علاقات تحالف مع إيران الخمينية وأخذ مساعدات منها، بالتوازي مع علاقات جيّدة مع بلدان الخليج ومساعدات من الأخيرة، التي كانت بنياتها وسياساتها في دائرة أهداف إيران الإقليمية، وكلّها مجرّد أمثلة.
واحتوت مسيرة النظام، إلى جانب عوامل القوة، حالات ضعف، أكدت هشاشة قوّته على نحو ما ظهر سلوكه في مواجهة إسرائيل واعتداءاتها على سوريا ولبنان والفلسطينيين، وعجزه الفاضح في إدارة صراع مع إسرائيل يسترجع فيه الجولان المحتلّ منذ العام 1967. وثمّة مثال آخر على ضعف نظام الأسد ظهر في أزمة العلاقات السورية - التركية عام 1998 حين قدّم النظام تنازلات كبرى، شملت وقف المطالبة بـ"لواء اسكندرون" وإعطاء تركيا الحقّ في طلب تعويضات نتيجة أضرار سياسة دمشق، والتوغّل في الأراضي السورية تحت حجّة الدفاع عن الأمن القومي التركي.
وتدلّ الوقائع، أنّ نظام الأسد لم يكن بالقوة التي يتخيّلها البعض، وجاءت أحداث ما بعد تولّي بشار الأسد السلطة خلفًا لوالده عام 2000، فأضافت أمثلة جديدة تدلّ على ضعف النظام، ولعلّ أبرز الأمثلة التي يمكن الإشارة إليها إطلاق السوريين فترة ربيع دمشق عام 2000 سعيًا لتغيير طبيعة النظام، وثورة اللبنانيين ضد النظام ودوره في بلدهم، وإجبار قواته على الخروج من لبنان عام 2005، وأعقب المثالين إطلاق السوريين ثورتهم عام 2011، التي حطّمت إلى حدّ التدمير الشامل نظام الأسد، وجعلته غير قادر على الاستمرار أو البقاء رغم المساعدات والحماية، التي قدّمها حلفاؤه، وخاصة الروس والإيرانيون.
أبرز الحاضرين حول جثّة "سوريا الأسد" روسيا وأمريكا وإيران وتركيا
لقد كشفت سنوات الصراع في سوريا وحولها ضعف وهشاشة "سوريا الأسد"، وحوّلتها إلى حيّز تتناهشه دول بعيدة وقريبة، صديقة ومعادية، وحوّلتها إلى محطّ أطماع قادة وقوى من توجّهات ومصالح مختلفة، وكان أبرز الحاضرين حول جثّة "سوريا الأسد" من القوى الكبرى روسيا والولايات المتحدة، ولكلّ منهما حضور سياسي وعسكري مباشر، تستعمله الأولى تحت ستار حماية النظام، وتسيطر على حيّز من "سوريا الأسد" يخدم مصالحها الاستراتيجية في شرق المتوسّط، ويعطيها امتيازات استثمارية، فيما تستغل الثانية حضورها القائم في العلن على محاربة الإرهاب في تأكيد وجودها ودورها في سوريا، وتستخدمه في دعم ومساندة أدوات محلية، تتناغم مع سياسة واشنطن السورية.
والمستوى الثاني من المتحلّقين حول "سوريا الأسد"، تمثّله دول إقليمية، تجعل من حضورها وسياساتها السورية جزءًا من استراتيجية التمدّد والسيطرة في المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية، وإن تفاوتت مستويات الاهتمام بكل جانب من الدول المعنية.
أول الدول إيران، التي تعود استراتيجيتها حول "سوريا الأسد" إلى أكثر من 45 عامًا، وتسارعت بشدّة مع انطلاق الثورة عام 2011، حيث كثّفت حضورها ودورها في كل المجالات تحت واجهة دعم ومساندة النظام، ومضت في الواقع إلى إحكام قبضتها على الدولة والمجتمع والسلطة في سوريا عبر أدواتها السياسية والعسكرية وغيرها، وأضافت إليها مشاركة الميليشيات التابعة لها من لبنان والعراق وأفغانستان، فأقامت وعزّزت بُنى سياسية واقتصادية واجتماعية ومسلّحة على طريق سيطرة شيعية فارسية شاملة على سوريا تحوّلها إلى ولاية إيرانية، أو كيان يسير في الفلك الإيراني على الأقلّ.
وتُمثّل تركيا الدولة الثانية في المجموعة، واختارت عام 2011 الوقوف ضدّ سياسات القتل والتدمير الأسدي، سواءً نصرةً لمطالب السوريين أو رغبةً في محاصرة تداعيات تلك السياسة، أو للأمرين معًا، وفتحت أبوابها للهاربين من القتل والدمار، ولقوى المعارضة، قبل أن تدفع لاحقًا قواتها إلى أربع عمليات عسكرية واسعة شمال سوريا على خلفية حربها ضد أكراد حزب الاتحاد الديمقراطي الذين تصفهم بالإرهابيين، وعزّزت في السنوات الأخيرة سياسة تتريك، عبر محاور تشمل إحكام القبضة على التشكيلات السياسية والعسكرية السورية في تركيا ومنطقة شمال سوريا الموصوفة بـ"المحرّرة"، وإقامة مؤسسات تركية في مناطق سيطرتها في شمال سوريا، وإشاعة استخدام الرموز التركية الأساسية: اللغة والعلم والعملة، وفتح أبواب تجنيس السوريين بصورة انتقائية، واللجوء عشوائيًا إلى عمليات ترحيل وإبعاد، ومنع دخول سوريين إليها.
منذ البداية دعمت إسرائيل بقاء نظام الأسد وصار أكثر استعدادًا للتسوية معها
ورغم أنّ تركيا كرّرت عدم رغبتها البقاء في سوريا أو الاستيلاء على جزء منها، فإنّ محصّلة السياسة التركية، تقود إلى تغييرات جوهرية في علاقات السوريين مع تركيا، وتترك أثرًا في تتريك سوريين وأراضٍ سورية في شمال البلاد.
وكانت إسرائيل ثالثة المشاركين في الصراع على "سوريا الأسد" دون إعلانات صريحة. حيث كرّست سنوات العقد الماضي هيمنة إسرائيل على الجولان، فصارت عودته إلى سوريا أبعد من أيّ وقت مضى، ومنذ البداية دعمت إسرائيل بقاء نظام الأسد، وقد صار أكثر استعدادًا للتسوية معها، واستغلّت الوجود الإيراني واجهة لتأكيد حضورها العسكري والسياسي في سوريا.
ما تشهده سوريا اليوم فصل جديد من سعي السوريين إلى هدفهم الكبير
الخط الثالث في الصراع على "سوريا الأسد"، خط محلي متعدّد الأطراف، الأهم فيه يمثّله الذين أطلقوا الثورة للخلاص النهائي من "سوريا الأسد"، وإحلال نظام جديد مكانها، يوفّر الحرية والعدالة والمساواة لكلّ السوريين مكانه.
وللحقّ فإنّ الطرف المحلي المكوّن من المعارضة والحراك المدني والشعبي، كشف عن ضعف هائل في الإمكانيات والأداء، فعجز عن تحقيق هدفه رغم التضحيات العظيمة التي قدّمها، والتي ستظلّ تعطيه الحافز للاستمرار في السير نحو هدفه، ولعلّ ما تشهده سوريا اليوم فصل جديد من سعي السوريين إلى هدفهم الكبير.
(خاص "عروبة 22")