لا فعل ولا أثر إلا باللغة، ولا قدرة للغة على ذلك إلّا بأن تكون متجذّرة في المخزون الثقافي وجارية على عادات المبلّغ أو المتلقّي في التَّعبير والتوَّاصل؛ وإذ تقرَّر هذا، فإنّ أشباه المشكلات السَّائدة في الوعي العربي المعاصر، بخاصة في فلسفات العلوم ومناهجها وغاياتها؛ إنمَّا منبتها هو الاعتقاد في وجود لغة صناعية كونية لا أثر فيها للخُصوصيات الثقافية، أو كما عبّر البعض بالقول إنّ: العلوم لا هوية لها.
ويسري الوصف على اللُّغة والثقافة أيضًا. لذا؛ فإنّ شرط صيرورة الفعل الثقافي والعلمي في السياق العربي، أن يبني أفكاره ومفاهيمه على المعاني اللغوية التي تسكن في ذاته ولا يشعر بالاغتراب معها، فتشقيق الكلام والاستثمار في الأصول اللغوية للكلمات وتوظيف المتخيّل الاجتماعي في الكتابة والتَّعبير والتَّبليغ هي الركائز التي تجعل الفعل الثقافي العربي يعيش تجربته الوجودية وإنشاءاته العلمية وبوجه لا يشاركه فيه غيره. وهذا ما يسمّيه الفيلسوف الكندي المعاصر "تشارلز تايلور"، بالمتخّيلات الاجتماعية، التي برأيه ليست هي الأفكار النّظرية وقد جرى تطبيقها، وإنما الأفكار النظرية التي يتشرّبها الوعي الجماعي وقد أصبحت فعلًا مشتركًا وأساسًا للمشروعية السياسية وإرادة التغيير الجماعية في الفضاء العام.
اللغة أصيبت في كبدها وتعطّل مفعولها التواصلي والعلمي الذي يرتفع بالوعي
من هنا، فإننا إن أردنا فهم العالم من حولنا، فإنّه جدير بنا أولًا؛ المساءلة عن الأفكار الأصلية البادئة، لكننا في الواقع لا نجدها أفكارًا مثالية كما خرجت من عقول المفكّرين غظّة ناصعة براقة، وإنما نكاشفها في عالم التداول الذي هو مقام تواصلي بين أشخاص لديهم متخيّل اجتماعي مشترك.
إنّ اللغة التي نتواصل بها وحتى تنتج الوعي والسلوك الثقافي النوعيين لا بد لها أن تتحقّق بأمرين إثنين:
أحدهما، التجذّر في المعاني اللغوية والدَّلالات السياقية التي تحقّق التَّفاهم من أجل الفعل الثقافي، لأنّ الوسيط اللغوي الذي ينفصل عن السّياق أو مقام التواصل، بحجة الكونية أو اللُّغة العلمية الموضوعية، تكون ثمرته قلق العبارة أو تهويلها كما كان يقول أبو نصر الفارابي؛ وهذا حالنا في مسألة الترجمة، التي لا تراعي عادات العرب في التَّعبير والتبليغ؛ لقد أنتجت لنا ركامًا من النصوص المترجمة، من غير أن تخترق وعي القارئ العربي أو تخلق فيه حافزية التفكير والتواصل، لأنها ترجمة تستوحشها الآذان ولا تُتَلقّى بالبناء والتَّجديد والإنتاج، وهذا ما حدث في تاريخنا الثقافي، لمّا نُقلت كتب اليونان الفلسفية وغير الفلسفية، من خلال المُحَوِّلْ السُّرياني الذي طبع المفاهيم بطابعه اللغوي الخاص؛ فكانت كتب مستغلقة على الفهم عصية على القراءة، جعلت فيلسوفًا عظيمًا مثل ابن سينا لا يفهم مقالة ما بعد الطبيعة لارسطو رغم أنّه قرأها أربعين مرّة! أو ما يقال عن الفارابي إنه وجد كتاب النفس لأرسطو طاليس وعليه مكتوب بخط يده: "إني قرأت هذا الكتاب مائة مرّة". كما نقل عنه أنّه كان يقول: "قرأت السَّماع الطبيعي لأرسطو طاليس الحكيم أربعين مرة وأرى أنّي محتاج إلى معاودة قراءته". وسواء صحّت هذه المرويات أم لم تصحّ، فإنها تعكس قلق المعرفة ومن ثمة قلق الثقافة بسبب الأساليب اللغوية التي كانت تتمّ بها التّرجمة.
والثاني، وصل اللُّغة بالقيمة، ففي البدء كان الكلمة، لأنّ للكلمة وقعًا في قلب الإنسان، وبقدر ما تكون الكلمة حاملة لقيمة روحية أو إنسانية بقدر ما تُغيّرُ الذّات وتحفز التعقُّل نحو الإبداع والتجاوز والفعل، وبقدر ما تتنزّل الكلمة وتختلط باللَّغو وبالقيم السّلبية؛ بقدر ما تتعطّل فعالية الإنسان وتجعله متمحورًا حول فردانيته المختزلة في المُتعية والنّرجسية.
اللغة قوة تُريد إما إثبات الحياة وإما نفيها
من هنا، تستبين أمامنا؛ مخاطر الانفصال بين اللغة والقيمة، ولعلّه من الآكد حاليًا، بسبب ثورة الإعلام والاتصال، نصرف القول إلى أنَّ اللغة قد أصيبت في كبدها، وتعطّل مفعولها التواصلي والعلمي الذي يرتفع بالوعي من حضيض العبثية إلى يفاع القصدية؛ وعلّة هذا الوصف؛ أنَّ واقع استعمال اللغة في جزء من وسائل الإعلام خاصة المحتويات التافهة؛ التي باتت نظامًا كما حلّل ذلك ألان دونو؛ هو تعبير جلي عن الصّلة البتراء بين القيمة واللغة، وإذا لم نعمل من أجل تحسين واقعنا اللغوي عن طريق إسكانه في القيم، أو بالأقوى تكون القيم هي الأسس المعرفية "أي الكلية والنّهائية"؛ لنظامنا اللغوي، فإنّ اللغة تفقد خاصيتها التعبيرية الإنسانية والحوارية، هذا الانفصال البائن خاصة في هذا العصر العولمي؛ هو ما دفع الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس إلى كتابة نصوصه خاصة نظرية الفعل التواصلي وأخلاقيات الحوار، من أجل تعبئة اللغة التواصلية والحوارية بشروط أخلاقية مسبقة يُسلم بها المتواصلون قبل الدخول في المحادثة، وكان الغرض هو صرف آفات العنف التي تنشأ في مجرى الاستعمال السيئ للغة.
جلي إذن، مركزية المسألة اللغوية ضمن البحث عن إثبات للحياة العربية بدل نفيها، إنها أي اللغة قوة تُريد؛ إما إثبات الحياة وإما نفيها، أما الإثبات فلا يتحقّق إلا بأن تكون عاداتنا في التعبير والتبليغ هي معيار التحقّق في الواقع؛ وبأن تكون القيم هي التي تضخُّ في اللغة المعاني الرفيعة والعبارات الشهية، وأما النفي، فليس سوى سير بلا دليل لغوي متوهمًا كونيّته وعلميّته ومتعاليًا عن مقامه التواصلي، وسير أيضًا بلا قيم تكون معالم نحو المعنى والقصد والفعل الثقافي النّوعي.
(خاص "عروبة 22")