وفق التصريحات المقتضبة لكلّ من أطراف التفاوض قبل وبعد الجولة الأولى، لا يبدو أنّ هناك تغييرًا كبيرًا في مواقف أيّ من مصر أو إثيوبيا والتي كانت سببًا في تعثّر أيّ حلول أو مبادرات سابقة، إذ لا يزال الخلاف جوهريًا فيما يتعلّق بسياسة كل دولة في شكل وآلية إدارة المياه في حوض النيل الشرقي.
ويكشف تعليق وزارة الري المصرية على الاجتماعات الجارية موقف مصر من تلك الجولة والذي أكّد تمسّك القاهرة بـ"توقيع إثيوبيا على اتفاق قانوني ملزم بشأن قواعد ملء وتشغيل سد النهضة، يراعي مصالح وشواغل الدول الثلاث"، ورفض أية خطوات أحادية في هذا الشأن، واعتبار أنّ "استمرار ملء وتشغيل السدّ في غياب اتفاق هو انتهاك لاتفاق إعلان المبادئ الموقّع عام ٢٠١٥".
بيان وزارة الري المصرية يؤكّد استمرار رفض القاهرة للتصرّفات الإثيوبية في إدارة السدّ دون التوصل لاتفاق، فضلًا عن تمسّكها بعدم المساس بحقوقها التاريخية في مياه النيل، وهو ما لم يلقَ قبولًا من أديس أبابا التي تعتبر أنّ لها السيادة الكاملة والحقّ في اتخاذ ما يلزم من إجراءات لتشغيل السد وملئه دون الرجوع لدول المصبّ.
وفي مقابل الثوابت المصرية تنطلق الاستراتيجية الإثيوبية في المفاوضات من مبدأ "الاستخدام العادل والمنصف لمياه النيل"، وهو ما تفسّر به حقها في استغلال مياه النهر بما يحقّق التنمية والأمن المائي للشعب الإثيوبي، من دون النظر إلى شواغل أو تأثيرات هذا الاستغلال على دول المصب، فضلًا عن مبدأ "السيادة" فيما يظهر وكأنه محاولة للهيمنة على مصدر النهر الذي ينبع من أراضيها.
تأتي هذه الجولة بعد مفاوضات كانت قد بدأت قبل 12 عامًا عندما وضع رئيس الوزراء الإثيوبي الراحل، ميلس زيناوي، حجر أساس سد النهضة في 2011، تجردت خلالها إثيوبيا من أي التزامات قانونية أو فنية ما عرقل مسار الدراسات الفنية الخاصة بتأثيرات السدّ على دولتَيّ المصبّ.
الآن حققت إثيوبيا إنجازًا كبيرًا بالانتهاء من الأعمال الرئيسية في جسم السد حتى التشغيل الجزئي وتوليد الكهرباء وتجهيز خطوط نقل الطاقة، والانتهاء أيضًا من التخزين الرابع لتصل كميات المياه المخزنة في بحيرة السد إلى 36 مليار متر مكعب من المياه (بلغت 32 مليارًا بحلول 22 أغسطس / آب) من أصل 74 مليار متر مكعب عند اكتمال الإنشاءات، فيما سجّلت القاهرة أكثر من اعتراض لدى منظمات إقليمية ودولية لرفض الإجراءات الأحادية الإثيوبية، ووصل الأمر إلى تهديد شديدة اللهجة من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في مارس 2021، حذّر فيه من "المساس بمياه مصر"، ولوّح باستخدام القوة بقوله: "لا يستطيع أحد أخذ نقطة مياه من مصر، وإلا ستشهد المنطقة حالة عدم استقرار لا يتخيّلها أحد".
توتّرات معرقلة لمسار التفاوض
ورغم توافق زعماء مصر وإثيوبيا على عودة المسار التفاوضي وحضور ممثلين عن السودان برئاسة وزير الريّ المكلف في الجولة الأولى، إلا أنّ المفاوضات تأتي في ظروف غير مؤاتية لا تبشّر بحلول حاسمة، بحيث يسود عدم الاستقرار السياسي والأمني في السودان، وتتصاعد وتيرة التوتّر السياسي والأمني في إثيوبيا إثر اندلاع العنف بين القوات القومية الوطنية وميليشيا فانو في إقليم أمهرة.
وقد تنعكس حالة التوتر في إقليم أمهرة بشكل كبير على قرارات الحكومة الإثيوبية في المفاوضات لتجنّب التصادم أو التسبّب في أيّ خذلان للرأي العام الإثيوبي الذي يتبنّى مواقف متشدّدة تجاه سد النهضة باعتباره مشروعه القومي الأوّل لتحقيق التنمية والرخاء، إذ يُعدّ إقليم أمهرة وعاصمته بحر دار، ذا خصوصية مختلفة في إثيوبيا لكونه الإقليم الثاني الذي يقطنه 23 مليون نسمة، فهو منبع النيل وتجري فيه بحيرة تانا التي تُشكّل الرافد الرئيسي للنيل الأزرق.
ويقلّل الوضع السياسي في إثيوبيا من فرص التوقيع على اتفاق ملزم بشأن ملء وتشغيل سد النهضة، إذ يؤكد وزير الريّ المصري هاني سويلم على "إيمان مصر بوجود العديد من الحلول الفنية والقانونية التي تتيح تلبية مصالح الدول الثلاث"، لكن يبدو الأمر مختلف في إثيوبيا من الناحية السياسية خاصة بعد رفضها العديد من الحلول الفنية التي يمكن من خلالها تفادي حدوث الأضرار التي تتخوّف منها القاهرة بخاصة في فترات الجفاف والجفاف الممتد وتشغيل السد وفق سياسة تضمن تدفقات كافية للمياه إلى بحيرة السد العالي في مصر خلال جولات المفاوضات السابقة سواء تلك التي جرت في واشنطن فبراير/ شباط 2020 بوساطة أمريكا والبنك الدولي، أو المفاوضات التي جرت برعاية الاتحاد الأفريقي حتى يناير/كانون الثاني 2021، حين رفضت أديس أبابا التوقيع على أيّ اتفاقات خوفًا من تحمل أي التزامات مستقبلية تؤثّر على خططها لاستغلال مياه النهر.
الوساطة الإماراتية
وقبل عام بدأت الإمارات بشكل غير معلن الدخول على خط الأزمة، فاستقبلت وفودًا فنية وقانونية ودبلوماسية من الدول الثلاثة لمناقشة مواقفهم وتصوّراتهم بشأن إمكانية التوافق حول حلّ يرضي جميع الأطراف ويقلّل من مساحة التوتّر والنزاع بخاصة في ظلّ مصالح أبو ظبي المتنامية في منطقة القرن الأفريقي ليس على المستوى الجيوسياسي فقط ولكن أيضًا لتعزيز المصالح الاقتصادية وتأمين تدفّقات الغذاء عبر تجارة المياة الافتراضية بالاستزراع في الأراضي السودانية والإثيوبية وتصدير المنتجات للسوق الإماراتي والأسواق العربية بالاستفادة من خصوبة الأراضي والموارد المائية.
وتقول مصادر قريبة لسير المفاوضات التي جرت في أبو ظبي: "التصوّر الإماراتي للحل لا يدخل في التفاصيل الفنية أو القانونية المتعلّقة بسدّ النهضة ولكنه أقرب إلى بناء تحالف وهيكل مؤسسي إقليمي يمكن من خلاله صياغة حلول وسياسات للتنمية وتعميم المنافع، لتعويض الضرر الذي يمكن أن يحدث جرّاء تشغيل أو ملء السد عبر مكاسب اقتصادية أخرى قد يكون من بينها الحصول على تدفقات من الغذاء أو الطاقة بتكاليف مخفّضة وبشكل مستدام".
وتؤكد المصادر نفسها أنّ "وساطة الإمارات تنطلق من مبدأ المصلحة من دون التمسك بمواقف جامدة، باعتبار أنّ السد أصبح حقيقة واقعة ولا يمكن تداركه"، وتعزّز هذه المصالح أدوار شركات الاستثمار الإماراتية في إثيوبيا والسودان ومصر، حيث تتم إدارة المياه في النيل الشرقي وفق استراتيجية شاملة لإدارة المياه في حوض النيل الشرقي تتوافق عليها الدول الثلاثة، وتشمل التكامل عبر مثلّث المياه والطاقة والغذاء.
المؤشرات الأولية حذرة بشأن توقّع حدوث أي اختراقات
وفي مقابل الوساطة الإماراتية القائمة على "تحقيق المكاسب الاقتصادية وتبادل المنافع"، لا يزال موقف القاهرة متمسّكًا بمبادئ وأسس القانون الدولي المنظّم للأنهار العابرة للحدود، والذي يضمن لها تأمين تدفّقات مياه النيل بما يشكل 97% من احتياجات المياه وحماية الأمن المائي، بخاصة في ظلّ أزمة المياه التي تصل إلى الفقر والشحّ المائي، وتهديدات التغيّرات المناخية وزيادة الطلب على المياه، بينما يستمرّ الطموح الإثيوبي الكبير في استغلال موارد النيل من دون اعتبار أي مصالح أو شواغل لمصر أو السودان، وهو ما كان سببًا في تجاهل مصر للإعلان عن أي مواقف تتعلق بوساطة الإمارات أو حتى التصريح بالمشاركة فيها، كما أعلن الجانبان الإثيوبي والسوداني.
حاليًا، لا تزال هناك مهلة 4 أشهر حدّدها الرئيس المصري ورئيس الوزراء الإثيوبي، للجولة الراهنة من المفاوضات، ومن المنتظر أن تعقد الجلسة الثانية في العاصمة الإثيوبية، أديس أبابا سيبتمبر/ أيلول الجاري... لكن تبقى المؤشرات الأولية حذرة بشأن توقّع حدوث أي اختراقات يمكن أن تغيّر في مواقف كلّ من مصر وإثيوبيا على المدى المنظور.
(خاص "عروبة 22")