بصمات

الهمجيّة الجديدة!

لعلّ المُتابع لسلوك الولايات المتحدة منذ بداية القرن الحالي (أحداث 11 سبتمبر/أيلول واحتلال أفغانستان والعراق)، يلحظ اعتمادها المُتزايد على ممارسة القوّة أكثر بكثير من النفوذ. لممارسة النفوذ ميزة كبيرة تنبع من استناده إلى موارد قوّة ناعمة وشاملة، تمنحه القدرة على التأثير عبر الإغواء والرّدع، من دون أن تستهلك نفسَها، ما يضمن استمرارها وتراكمها. أمّا ممارسة القوّة فتنطوي على خطرٍ كبيرٍ ينبع من استنادها إلى موارد صلبة، يُفضي استخدامها إلى استهلاكها، فتتآكل وتذوي بالتدريج، فلا يكون أمام مالكها سوى التراجع ثم الأفول، وتلك سُنّة التاريخ في الإمبراطوريات السابقة.

الهمجيّة الجديدة!

هذا الملمح البادي طيلة ربع القرن الماضي تصاعدَ كثيرًا في الولاية الأولى للرئيس دونالد ترامب، الذي اتّخذ في تلك الفترة قراراتٍ مثيرةً وغير قانونية، تهدر الشرعية الدولية، من قبيل الموافقة الضمنية على قانون قوميّة الدولة الإسرائيلية، وقرار الانسحاب من المجلس العالمي لحقوق الإنسان بحجة تحيّز أعضائه ضدّ إسرائيل، وقرار نقل السفارة الأميركية إلى القدس، وقرار الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران.

كأنّ ترامب أحد فُتُوّات "الحسينية" و"الدرب الأحمر" الأقلّ أخلاقًا في فرض الإتاوة على حرافيش عالمنا

لكنّ أداء ترامب بلغ من الكثافة والاطّراد والتراكم في الأشهر القليلة المُنصرمة من ولايته الثانية حدًّا مزعجًا للعالم كلّه، حيث تورّط الرجل في عشرات القرارات والتوجّهات بالغة الخطورة من قبيل رفع التعريفة الجمركية، القرار الذي أطلق حربًا تجارية مدمّرة لمستقبل التجارة العالمية، ودعوته العنصريّة إلى تهجير فلسطينيي غزّة من أراضيهم، وأخيرًا تورّطه المؤكّد في هجوم إسرائيل الأخير على إيران، حيث أعطاها الضوء الأخضر، وأغدق عليها بكلّ المعلومات الاستخباراتية وصور الأقمار الصناعية المُتاحة، وبالقدرات التكنولوجية واللوجستية التي مكّنت طائراتها من التزوّد بالوقود في الجو، فضلًا عن الذخيرة اللازمة لتدمير المنشآت النووية الحصينة. ناهيك عن الإسناد الاستراتيجي والدعم اللوجيستي المعهود الذي تضمّن حتّى الآن تحريك المُدمّرات البحرية وحاملات الطائرات نحو المنطقة، ترادفًا مع خطابٍ سياسيّ لا يُنكر الدعم الأميركي للهجوم الإسرائيلي الذي وصفه ترامب بـ"العمل الممتاز"، فضلًا عن عدم استبعاده تدخّل الجيش الأميركي في الحرب في حال استمرّت أو اتّسعت، وكأنّه يدعو إيران إلى الاستسلام لإسرائيل، بدلًا من أن يدعو إسرائيل لوقف الحرب.

يكشف سلوك ترامب عن أزمة قيادة عالمية، وُلدت مع نهاية الحرب الباردة، ولا تزال تتزايد حتى بلغت قدرًا من الحدّة صار جارحًا لمفهوم السياسة بالمعنى الحديث، أي باعتبارها ظاهرةً مدنيةً تأسّست على قيم العقلانية والرّشد والكفاءة، وتخضع لإشراف القانون والتنظيم الدوليَيْن، وكذلك لإلهام النزعتَيْن: الكونية والإنسانية. بل إنّ "التجريس" الذي يقوم به الرجل علنًا لجلّ حلفائه مُطالبًا إياهم بدفع مقابلٍ ماديّ مباشرٍ نظير الدفاع عنهم، يكاد يستبدل عصر الإستراتيجيات الدولية والإقليمية بعصر الفَتوَنة التقليدي في ملحمة "الحرافيش" لنجيب محفوظ، وكأنّ ترامب أحد فُتُوّات "الحسينية" و"الدرب الأحمر" الأقلّ أخلاقًا في فرض الإتاوة على حرافيش عالمنا الذي يعود بنا، والحالُ هذه، إلى حالة الطبيعة الأولى.

الحرب العالمية الثانية مثّلت لحظة الذروة في عبث القوّة بالمصير الإنساني

والحقّ أن نموذج ترامب ليس غريبًا على التاريخ السياسي التقليدي، الذي شهد مرارًا قادةً طرحوا أنفسهم على العالم بقسوةٍ وغلظة، منذ عصر القبيلة مرورًا بعصر الإقطاع العسكري والإمبراطوريات عابرة الأقاليم، وصولًا إلى الإمبراطوريات الاستعمارية الحديثة التي انتهت إلى الإمبريالية والنازية والفاشية. وربّما امتلك بعض هؤلاء القادة أفكارًا عن كيفية إدارة العالم، ولكنّها كانت أفكارًا رجعية وعنصرية: دينية أو طائفية أو عِرقية، لم يكن القصد منها هو الإلهام، بل الإغواء، فالأفكار بالنّسبة لهؤلاء الحكّام لم تكن أكثر من مجرّد غطاءٍ يضعونه على رؤوسهم كي يُبرّروا سلطتهم المُطلقة، أو على سِنيّ رماحهم قبل إطلاقها على صدور منافسيهم، لتقوم بمهمّة تبريد موتور الماكينة التي تُعيد إنتاج عمليات السيطرة والخضوع، أي حفظ وتأمين الأوضاع القائمة وجعلها ممكنةً بتكلفةٍ معقولةٍ، على الأقل حتى تتغيّر قواعدها جذريًا.

عالم اليوم بلا قيادة يسير نحو همجيّة جديدة أسيرًا لأفكار ورجال دون مستوى تحدّياته

لكن الغريب في أمر ترامب هو سياقه الزمني، فمنذ بداية القرن الماضي بَدَت النّزعة العالمية حقيقةً ناميةً، وحتّى الحرب العالمية الثانية، التي مثّلت لحظة الذروة في عبث القوّة بالمصير الإنساني، وُلد من رحمها تنظيم الأمم المتحدة الذي يسعى، بكلّ وكالاته وهيئاته، إلى صوْن الحكمة التاريخية وتجسيد مشروع التنوير كما مثّله الفيلسوف إيمانويل كانط في مشروعه لـ"السلام الدائم"، إذ رأى في إرساء مُثُلِ العدالة والسلام بين الدول شرطًا ضروريًا لإرساء الحرية والمساواة داخل الدولة نفسِها.

وعلى هذا يتبدّى لنا كيف صار عالم اليوم بلا قيادة، يسير نحو همجيّةٍ جديدةٍ أسيرًا لأفكارٍ ورجالٍ دون مستوى تحدّياته. فلا الشعبوية الأوروبية اليوم تُمثّل فلسفة التنوير بأي حال، ولا الرئيس ترامب ينتمي بأي وجه لعصر العقل كما يُمثّله توماس بيِّن وبنيامين فرانكلين، أو لتقاليد المقعد الرئاسي كما جسّدها جورج واشنطن وأبراهام لينكولن وأيزنهاور، وربما باراك أوباما.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن