مع كل سنة ينتظر "مغاربة العالم" بشغف بالغ تلك اللحظة التي تطأ أقدامهم أرض أجدادهم للاستمتاع بأوقات جميلة رفقة الأحباب والأصحاب، وتجديد الروابط العائلية، والتعرّف على التقاليد والعادات المتنوّعة والمختلفة باختلاف المناطق بالمغرب، ومن هؤلاء فئة تضع على قائمة أولوياتها تعليم أطفالها أصول "لغة الضاد".
أخشى على أطفالي من التطرّف... والمدارس الخاصة هي الحلّ
في ضواحي مدينة بني ملال في الوسط الغربي للمغرب، حيث تشتدّ درجة الحرارة وتصل إلى مستويات يصعب تحمّلها خلال فصل الصيف، إختار أحمد عبد النبي (51 سنة، مهاجر مقيم بإسبانيا)، إحضار أطفاله ليقضوا العطلة في منزل والديه بعدما كان قد خطّط أن يمضيها في إحدى المدن الساحلية شمال المغرب، وسبب تراجعه عما خطّط له هو رغبته في أن يتعلّم أطفاله اللغة العربية في مدرسة خاصة، نظرًا لعدم استفادتهم من أيّ برنامج لتعليم اللغة العربية في مهجرهم، إسبانيا.
يقول أحمد لـ"عروبة 22": "اللغة العربية تمثّل جزءًا مهمًا من هويتنا الثقافية ونحن في حاجة لأن يتعلّمها صغارنا، لأنها الأداة السليمة والصحيحة لتعزيز رابطتهم مع جذورهم وتراثهم الثقافي".
على الرغم من وجود جمعيات في المدينة التي يقيم فيها تسعى إلى تعليم اللغة العربية، إلا أنّ أحمد يخشى مما وصفه بـ"مخاطر التطرّف" التي قد تكون مرتبطة بهذه الجمعيات، بقوله: "في المدينة التي أقطن فيها، هناك جمعيات إسلامية تسهر على تلقين أبناء المهاجرين من أصول إسلامية اللغة العربية، لكن لا أرسل إليها أبنائي لأنني أخشى عليهم من التطرّف، فأنا غير متأكّد من مرامي القائمين على شؤون هذه الجمعيات وأهدافهم، لذلك بدا لي الحلّ الأمثل هو أن أدرّس أبنائي في وطني وفي مدرسة خاصة، متى أتيحت لي الفرصة".
لم يزر أحمد المغرب منذ أربع سنوات بسبب جائحة "كورونا"، والتداعيات الاقتصادية التي ترتّبت عليها وأثّرت على وضعه المادي. لكن صيف هذا العام كان مناسبًا له لقضاء عطلته السنوية، ومدّتها شهر، في وطنه الأم، وقد اختار ترك أطفاله رفقة والدتهم طيلة هذه العطلة من أجل استثمار الوقت في تعلّم اللغة العربية.
قرار أحمد بأن يُدرّس أطفاله اللغة العربية في مدرسة خاصة في المغرب يعكس عمق ارتباطه باللغة والثقافة العربية، وأهمّيتها في بناء الهوية الثقافية والدينية للأسرة.
أوّل حصة دراسية... بـ"سروال قصير وغطاء رأس"
بدورها، سلمى سمير (33 سنة)، المنحدرة من العاصمة المغربية الرباط والمقيمة في ألمانيا، خطّطت هذه السنة لأن تتعلّم طفلتها اللغة العربية من خلال إحدى الجمعيات التي تسهر على تسيير دار للقرآن في أحد أحياء العاصمة، وتقول: "قررتُ هذه السنة أن تتعلّم طفلتي اللغة العربية لأنّها لغتها الأمّ، وهي اللغة التي تُشعرك بالانتماء والأصل وهي التي تميّزنا عن باقي الجنسيات".
"في اليوم الأول لم تتقبل طفلتي، البالغة من العمر 11 سنة، الفكرة، ولم تكن متحمّسة لذلك"، تروي سلمى لـ"عروبة 22"، "لأنها اعتادت أن تمضي العطلة رفقة صديقاتها في اللعب والسباحة، لكن أقنعتها بأهمية استثمار وقت الفراغ في ما يفيدها، وهي الآن تتابع تعلّمها، حتى أنها ذهبت في أوّل حصة دراسية بسروال جد قصير، ووضعت غطاء الرأس"، تستطرد سلمى وهي تضحك.
هي تدرك أنّ هذه الخطوة تحمل أهمية كبيرة لابنتها بسبب سنّها ومعرفتها المحدودة باللغة العربية. وبفضل هذا القرار، ستتمكّن ابنتها من الإلمام أكثر بجذورها الثقافية واللغوية، والحصول على فهم أكبر للتراث العربي الأصيل.
لتكثيف الجهود من أجل تعليم أبناء المغاربة اللغة العربية
ناديا يقين، مديرة المعهد المغربي الألماني للدراسات والبحوث، تعتبر أنّ الإقبال على تعلّم اللغة العربية خلال فصل الصيف من قبل أبناء المهاجرين، سببه رغبة الوالدين في استثمار فترة العطلة الصيفية في تعليم أبنائهم لغة وطنهم الأمّ.
وأوضحت يقين لـ"عروبة 22" أنّ تدريس اللغة العربية في ألمانيا يتمّ إما في مدارس تابعة لجمعيات عربية في المساجد، أو ضمن برامج تعليم اللغة الأم في المدارس ألمانية. وتابعت بالقول إنه "بالرغم من وجود هذه الخيارات، إلا أنها لا تُلبّي الاحتياجات اللغوية للأسر المغربية بسبب محدودية ساعات التعلّم، مما يدفع بعض الأسر لتشجيع أطفالهم على تعلّم لغة آبائهم خلال نهاية الأسبوع أو أثناء زياراتهم للمغرب".
وتعتبر مديرة المعهد المغربي الألماني للدراسات والبحوث أنّ فترة الصيف تشكّل فرصة أمام الأسر للراحة والاستجمام، ومناسبة للأطفال للاستمتاع بالعطلة واكتشاف بلدهم الأصلي. لكنها تلفت الانتباه إلى أنّ "تعليم اللغة العربية خلال فترة الصيف، قد يعيق الأطفال عن اكتشاف المغرب وما يقدّمه من ثقافة وتاريخ، ويسبّب الإرهاق لهم" وفق بعض الدراسات التي قامت بها.
وفي هذا الصدد، تقترح يقين أن يتمّ دعم الجهود وتكثيفها من أجل تعليم أبناء المغاربة اللغة العربية في ألمانيا، وعدم اقتصار هذا التعليم على الجمعيات الإسلامية والمساجد فقط. كما تشدّد على أنّ هذا الأمر يتطلّب تخطيطًا مُحكمًا وتطوير الطرق البيداغوجية، ومع تحقيق ذلك سيشهد الطلب على تعلّم اللغة العربية ارتفاعا كبيرًا.
تكريسٌ للهوية وتعزيزٌ للتواصل بين الجالية المهاجرة والأجداد
من جانبه، يؤكد الحسن جفالي، أستاذ باحث وخبير في قضايا الهجرة، أنّ هناك اهتمامًا بتعلّم اللغة العربية من لدن المغاربة المقيمين في الخارج خلال شهور العودة إلى أرض الوطن والتي تتزامن مع فصل الصيف، وهو ما يؤشّر، في نظره، إلى تكريس الهوية المغربية وثقافة الآباء، كما يمثّل امتدادًا بين جيل الآباء وأجيال الأبناء والأحفاد، حيث يسعون لتعلّم أصول اللغة العربية بغضّ النظر عن الظروف المحيطة بهم.
ويقول الجفالي لـ"عروبة 22": "تعمل الدولة المغربية على دعم وتنفيذ برامج لتعليم اللغة العربية لأبناء الجالية المغربية في الخارج، حيث تقوم مؤسسة الحسن الثاني بدور فاعل في هذا الصدد، وتهدف هذه البرامج إلى تكليف الأساتذة المؤهلين لتقديم تعليم متميّز وشامل للغة العربية، مما يساعد على تعزيز الانتماء الوطني والحفاظ على الهوية الثقافية للجالية المغربية، وبما يمثّل أيضًا أداةً فعّالة للتواصل بين أبناء الجالية المهاجرة والأجيال الأكبر سنًا والأجداد".
ويهدف المغرب من وراء تعليم أطفال المغاربة اللغة العربية بالمهجر، حسب ما ورد في الإطار المرجعي لتعليم اللغة العربية والثقافة المغربية لأبناء الجالية المغربية القاطنة في أوروبا، إلى "تحفيز المتعلّم على تعلّم اللغة العربية بأساليب وأدوات حديثة، وإقداره على الاستماع والتحدث والقراءة والكتابة باللغة العربية، وتمكينه من التحكّم التدريجي في القواعد اللغوية والتداولية، وإقداره أيضًا على تلقّي وفهم وإنتاج الخطابات الأكثر تداولًا في مجال التواصل المختلفة، وتشجيعه على البحث والمطالعة الحرّة بما يضمن توظيفه للغة العربية ومواصلة تطوير مستواه فيها".
70 ألف طفلة وطفل و573 أستاذة وأستاذًا
وبحسب أرقام رسمية لسنة 2022، فإنّ عدد المستفيدين من برنامج تعليم اللغة العربية والثقافة المغربية لأبناء المغاربة المقيمين في الخارج، بشقّيه النظامي وغير النظامي، يصل إلى 70 ألف طفلة وطفل يتوزّعون على 2.000 مؤسسة تعليمية، و400 جمعية ومسجد ومركز اجتماعي، بطاقم تعليمي يتكّون من 573 أستاذة وأستاذًا.
وتوضح المعطيات الرسمية، التي حصل عليها موقع "عروبة 22" أنّ الأساتذة يزاولون مهامهم داخل المدارس الرسمية لدول الاستقبال في إطار اتفاقيات شراكة ثنائية مع عدد من الدول الأوروبية، وتسهر عليها جمعيات المغاربة المقيمين في الخارج النشيطة في الحقل التربوي، ويتمّ بشكل مشترك بين كل من مؤسسة الحسن الثاني للمغاربة المقيمين بالخارج، ووزارة التربية الوطنية والتكوين المهني والتعليم العالي والبحث العلمي، ووزارة الشؤون الخارجية والتعاون الأفريقي، والمغاربة المقيمين بالخارج.
أما بالنسبة إلى التعليم غير النظامي، فإن الدولة تدعم جمعيات مغاربة العالم النشيطة في مجال التعليم، وذلك عبر توفير الكتب المدرسية والديداكتيكية لهذه الجمعيات، كما قامت مؤسسة الحسن الثاني للمغاربة المقيمين بالخارج سنة 2013 بإطلاق برنامج للتعليم عن بُعد E-Madrassa، وهو عبارة عن منصة لتعليم اللغة العربية والثقافة المغربية عن بُعد عبر شبكة الانترنت.
عمومًا، تواجه الجاليات العربية تحدّي الحفاظ على الخصوصية الثقافية والتمكّن من اللغة الأمّ، اللغة العربية التي لها تاريخ طويل وثري... وتمثّل الهوية، كما قال جان فرانسوا ماركييه: "الإنسان كان يبحث منذ البدايات عن مرآة يمكن أن يجد فيها صورة هويّته المشتّتة، وقد جمعت وجرى فهمها أخيرًا، وهو يعثر على غذاء بحث كهذا في اللغة والفلسفة والآداب".
(خاص "عروبة 22")