اليوم، بينما نجحت دولة مثل اليابان في خلق رأسماليتها الوطنية التي قادت نهضتها وعزّزت هويتها، وتبعتها دول مثل الصين وماليزيا وكوريا وتركيا، فإنّ العالم العربي يكاد يخلو من طبقة رأسمالية محلّية الجذور تقود الاقتصاد ولا سيما بالصناعة.
يمكن القول إنّ نشأة العروبة قبل الإسلام، والدويلات العربية بشمال وجنوب الجزيرة، هي نشأة تجارية لحدّ كبير، ازدهرت بعد تدجين الجِمال كوسيلة نقل عبر الصحراء، وساهم ذلك بانتشار اللغة العربية، فبحلول عام 950 قبل الميلاد تقريبًا، بدأ التجّار الأنباط بالتجارة مع الهند مؤسّسين أوّل طرق القوافل الكبرى.
بعد الفتوحات الإسلامية، احتكر التجّار العرب تجارة التوابل العالمية، ولكن حدثت ظاهرة مهمّة سيكون لها تداعيات لاحقة، هي القطيعة بين أوروبا المسيحية والشرق، وهو ما فاقم التدهور الحضاري لأوروبا خلال العصور الوسطى، حسب كثير من المؤرّخين الغربيّين الذين يلقون باللوم على الإسلام في ذلك، ويرون أنّ هذه القطيعة سببها تقسيمه للعالم لدار حرب ودار سلم.
التحوّل من دول نخبتها عربية لنخب تركية تعتمد على الإقطاع جعل الدول الإسلامية تتعامل مع التجّار كهدف للجباية
ولكن ما يتمّ تجاهله هو وجود أسباب عكسية، فلقد أدّى غياب قبول الآخر داخل أوروبا المسيحية خلال العصور الوسطى، لصعوبة سفر التجّار المسلمين للغرب.
وعندما دخل التجّار الإيطاليون مضمار التجارة الدولية بالقرن الحادي عشر، سُمح لهم بدخول بلاد الإسلام، ونسجوا علاقات مع دول المنطقة، بينما لم يُسمح للتجّار المسلمين بالعكس، وهذا أفقدهم مهارات التواصل الحضاري مع الغرب الذي كان يتقدّم ببطء.
كما أنّ تحوّل الحكم بالعالم الإسلامي تدريجيًا، من دول نخبتها عربية لنخب تركية عسكرية، تعتمد على الإقطاع كمصدر للدخل وكانت بعيدة عن المكوّن الثقافي العربي ببُعده التجاري، جعل الدول الإسلامية تتعامل مع التجّار والحِرفيين كهدف للجباية وليس كشريك، خاصة أنّ التركيبة التركية ليست تجارية بطبيعتها.
ورغم أنه في بداية السيطرة العثمانية على العالم العربي، جرت محاولات للتصدي لمشروع البرتغاليين لتدمير تجارة التوابل العربية ومنافستهم، ولكن الدولة العثمانية اتخذت موقفًا محايدًا من التجارة والصناعة، عكس العديد من الدول الأوروبية الحديثة خاصة الديمقراطية منها، مثل فينيسيا التي كانت من أغنى مدن العالم وبنت أسطولًا عسكريًا عملاقًا لحماية تجارتها، والبرتغال وأميرها الشهير هنري الملاح الذي قضى عمره في إيجاد بديل للطرق البحرية العربية، وهولندا التي كانت شركة الهند الشرقية الهولندية محور سياستها، أو بريطانيا التي كانت تُرسل التجّار لأطراف الأرض ثم تتبعهم باستعمار المناطق الاستراتيجية.
مع الفساد وإنبهار العديد من حكّام المنطقة بالغربيين انتهى الأمر بسيطرة شبه كاملة للتجّار الأجانب على الاقتصاد
في المقابل، سيطر التجّار العرب لقرون على طرق التجارة القديمة بالمحيط الهندي دون منافسة، ولكن عزلتهم عن الغرب، جعلهم يُصدمون في القرن السادس عشر، عندما جاءهم الأوروبيون بالمدافع (على الأغلب المدفع اختراع أندلسي أو مغاربي) وأساليب تجارة وعلوم حديثة (بعضها عربيّ الأصل) حطّمت السيطرة العربية على تجارة المحيط الهندي الثرية.
وازدادات الفجوة الحضارية لغياب الدمج بين العلوم والتجارة كما حدث بالغرب.
وبينما حمت الدول الأوروبية صناعاتها بحجب المنتجات الأجنبية عن أسواقها وأرسلت الأساطيل لنصرة تجّارها، أتاح العثمانيون حرّية التجارة للجميع، بل ومنحوا التجّار الغربيين الامتيازات، التي تحوّلت في عهود ضعفهم لميزة للتجّار الأجانب وحتى تجّار الأقليات، المدعومين بالحماية الأجنبية.
وعندما انفتحت الدولة العثمانية على العالم بالقرن التاسع عشر، جرى ذلك في ظلّ ضعف عسكري وحضاري وسياسي، وكما يقول شارل عيساوي في كتابه "التاريخ الاقتصادي للشرق الأوسط وشمال إفريقيا" أصبح التجّار الأجانب والأقلّيات مثل اليونانيين والأرمن (كانوا رعايا عثمانيين) والموارنة متفوّقين حضاريًا جرّاء اتصالهم بالغرب، وبسبب تركيبتهم الأقلوية المنظّمة، والحماية الأجنبية، واتصالاتهم العابرة للحدود، مقارنةً بالتجّار العرب والمسلمين بأساليبهم التقليدية وعدم معرفتهم بالأساليب واللغات الغربية.
ومع الفساد وإنبهار العديد من حكّام المنطقة بالغربيين، انتهى الأمر بسيطرة شبه كاملة للتجّار الأجانب على الاقتصاد بتركيا ومصر تحديدًا في بداية القرن العشرين، وفي المغرب العربي جرى الأمر بشكل أكثر قسرية عبر الاستعمار الفرنسي، وكان الوضع أقلّ حدّة بسوريا ولبنان، حيث وُجدت طبقة تجارية محلّية نشطة.
ولم تقدّم الدول الحديثة بالشرق الأوسط، الحماية لصناعتها المحلية في فترة نشأتها أمام المنافسة الخارجية حتى يشتدّ عودها، كما فعلت اليابان.
ومحاولات التحديث كانت أغلبها شكلية وركّزت على استنساخ القوانين والسلوكيات الغربية، دون التركيز على جلب المعارف المرتبطة بالصناعة مثلما فعلت اليابان، وأدّى هذا التحديث الشكلي أو التغريب بمعنى أدق للتحوّل لأنماط استهلاكية غربية، بينما ظلّت أساليب الإنتاج قديمة، إذ تخلّى العرب على سبيل المثال عن الجلباب قبل أن يصنعوا البدلات الحديثة، وهو ما أدّى لغزو منتجات النسيج الغربية لا سيما البريطانية للمنطقة، عكس ما حدث في اليابان التي طوّرت أساليب الإنتاج قبل تغيير أنماط استهلاكها.
حدثت محاولات متواضعة في مصر بعد استقلالها الجزئي عام 1922، لبناء طبقة رأسمالية وطنية، ولكن الأمر لم يتمّ بكفاءة النموذج الياباني نفسها في احتضان الرأسمالية الصناعية، كما لم تخلق هذه الطبقة نموذجًا محلّي الجذور، خاصة أنّ التغريب الشكلي ظلّ سمة لها.
إلى أن جاءت ثورات الضباط العرب التي أسّست الجمهوريات الاشتراكية لتقضي على الرأسمالية الوليدة، بينما بقيّة الدول العربية التي اتّبعت النموذج الرأسمالي، غلب على رأسماليتها التجارة والاستيراد تحديدًا، وتحوّلت لوكلاء للمصنّعين الأجانب، كما أنها تشوّهت بعلاقتها بالسلطة، التي لم تضغط عليها لبناء صناعة محلية مثلما فعلت النمور الآسيوية، وتقلّبت الأسواق بهذه الدول بين الحمائية المبالغ فيها، والانفتاح الاستيرادي دون ضوابط، كما أدّت السياسات النقدية بدعم العملات الوطنية إلى إضعاف تنافسية المنتجات الوطنية.
تجربتا دمياط وحلب كاشفتان لجذور أزمة الرأسمالية العربية الحديثة
لكن كان هناك بعض استثناءات ظهرت فيها رأسمالية عربية محلّية الجذور قد يكون أوضحها في مدينتي حلب السورية ودمياط المصرية، التي تطوّرت فيهما طبقة التجّار العريقة إلى رأسمالية صناعية ولو جزئيًا، اعتمادًا على تطوّر تدريجي للتجارة والحِرف القديمة، مع التوجّس من الاقتراض المصرفي، وشبكة علاقات أهلية تستند لأعراف تنظيم التعاملات وطابع اجتماعي محافظ أقلّ تغريبًا واستهلاكًا مقارنةً بالطبقات الميسورة في العالم العربي الحديث وميل للإدخار وصم سكان المدينتين بالبخل.
وحقّق هذا النموذج نجاحًا لحدّ كبير، فحلب قبل الحرب السورية كانت العاصمة الاقتصادية للبلاد، رغم أنّ الاهتمام الحكومي كان مركّزًا على دمشق.
ودمياط كانت أعلى محافظة مصرية من حيث دخل الفرد حتى سنوات خلت، رغم أنها لم تنل استثمارات حكومية تُذكر (باستثناء الميناء والمناطق الصناعية)، كما أنّ صادراتها من الأثاث ظلّت لسنوات جزءًا مهمًا من صادرات مصر (كان الأثاث الدمياطي يُصدّر للاتحاد السوفييتي مقابل السلاح بعد حرب 1967).
تجربتا دمياط وحلب كاشفتان لجذور أزمة الرأسمالية العربية الحديثة، فغياب البصمة الحكومية عنهما خلال القرنين الماضيين، قد يكون عاملًا إيجابيًا لأنّ البصمة الحكومية كانت سلبية بالمنطقة في أغلب الأحيان، حيث شجّعت التطوّر غير الرشيد، كما حدث بمدينة المحلّة المصرية التي أدى تأميم شركات النسيج فيها لتدهورها، أو الأسكندرية الكوزموبوليتانية التي كان ينعم بخيراتها الأجانب.
كما أنّ عزلة المدينتين النسبية عن التغريب، جنّبهما الآثار السلبية للتحديث المشوّه بالمنطقة، وجعلهما يحملان سمات من النموذج الياباني، حيث يحافظ المجتمع على الإيجابي من تقاليده مع الأخذ بأساليب الإنتاج الحديثة.
بالطبع هذا النموذج لا يخلو من عيوب، مثل التمسّك بالأذواق وأساليب الإنتاج التقليدية، كما يفتقد للمؤسسية الحديثة، ولكن قصّة المدينتين تُظهر حاجة الرأسمالية العربية لجذور محلية لكي تحقّق النجاح المنشود.
(خاص "عروبة 22")