ما أغنانا، في المعـرض هـذا، عن القول إنّ مشروعًا مّـا غيرُ قابل للنّجـاح، بالتِّـلقـاء، بل يحتاج إلى أن يتوافر له "الحاملُ الاجتماعيّ" الذي يحمله ويُـنْـفِـذُه في الواقع إنفاذًا، وذلك لا يتسـنّى إلّا متى حصل "الاقـتـناعُ الجمْـعيّ" بـه وبجـدواه. هـا هنا لا مهْـرب لبُـناة ذلك المشروع من "ثـقافةٍ خاصّـة" به تحْـمله إلى الآفاق الأرحب؛ أعني: من النّـخب إلى الجمهـور.
نحتاج اليوم إلى وحـدة عقلانيّـة متـدرّجة
من النّافـل القولُ إنّ فكرةَ مشـروعٍ وحدويّ عربيّ تُـدرِك، على التّحقيق، أنّـه (مشروعٌ) من جنس المشاريع الكبرى التي لا نُـدْحةَ لها عن ثقافـةٍ خاصّـة بها، تُـخْـرِج العلاقـةَ بها من تعبيراتها الدّنيا (المُشايَـعَـة، الحماسة، الشّعاراتـيّـة...) إلى حيث تُـبْـنى على الإدراك والرّؤيـة. ولكن، إذا كانت فكـرةُ المشروع واضحـةً بما يكـفي في حـالات تاريخيّـة عـدّة أمكـن فيها لذلك المشـروع أن يتحقّـق - كُـلًا أو أبْـعاضـًا - فهي ليست بهذا الوضوح في حالة المشروع الوحـدويّ العربيّ الذي ما قُـيّـضَ له بعـدُ أن يستويَ مشروعًا سياسيًّـا محمولًا على صهـوة جمهـورٍ اجتماعـيٍّ قـادر على نقله إلى حيّـز الوجود التّاريخيّ. لذلك، سنتـكـلّم - في إسـراعٍ - على المشروع بمعنيـين: بمعنًـى فكـريّ أو ثـقافيّ وبمعنًـى سياسيّ؛ ثـمّ سنتكـلّم عليه بما هـو ممتـنعُ الإمكان، اليـوم، لأسباب سَـيَـرِدُ الإِلمـاحُ إليها.
كان لدى العرب (= نخبُـهم الفكريّـة بالتّحديد) مشروعٌ فـكريّ عن الوحدة؛ وهـو كنـاية عن ذلك التّـراث الفكـريّ الذي أنتجَـتْـه أعمالُ ساطع الحصري، زكي الأرسوزي، محمّـد عـزّة دروزة، ميشيل عـفلق، قسطنطين زريق، نديم البيطار، عصمت سيف الدّولة، ياسين الحافظ... في مسائـل الوحـدة. لستُ على يقيـنٍ من أنّ هذا المشروع الفكـريّ ما زال يملك أن يجيب عن حاجاتـنا، اليوم، إلى وحـدةٍ عقلانيّـةٍ متـدرّجة، وإنْ كنتُ أسلّم بقيـمته الكبيرة وحاجتنا الماسّة إلى إعادة وصْـل الصّلة به، والبناء على الغـنـيِّ فيه، والامْتـياحِ منه. والأهـمّ من هذا أنّـنا - من أسفٍ شديـد - لا نملك مشروعًا فكـريًّـا جديدًا وبديلًا يدور على مسائل الوحـدة، فيما يتّـسع - في الوقـتِ عينِـه - نطاقُ اليقين، في كلّ بـلدٍ عربيّ، بأنّ نهضـةَ العرب وتـقدّمَـهم وانخراطَـهم في صناعة التّاريخ والمستقبل رهْـنٌ باجتراحهم مشروع الوحـدة: أُسوةً بغيرهم من أمم الأرض التي انتهضت بعد أن توحّـدت. حين يكون المشروعُ الفكـريّ للوحدة غائبًا أو مأزومًا أو شيئًا بهذه المثابة، فكيـف لفكرة الوحدة أن تجد لنفسها، إذن، حاملَها الاجتماعيّ الذي ينقُـلها من القـوّة إلى الفعـل؟
لا مهْـرب للمؤمنين بالوحدة من الشّروع في بناء ثـقافتها
في مقابلةِ هـذه الحقيقة، وبالتّـوازي معها، تـنـتصب حقيقةٌ رديفٌ هي خُـلـوُّ واقعنا السّياسيّ العربيّ، اليوم بل منذ نصـف قـرن، من أيّ مشروعٍ سياسيّ وحـدويّ عربيّ. لا نقصـد به مشروعًا يَـحْمل فكرة الوحـدة (فـهذا سوقُـهُ السّياسيّة الحزبيّة نافـقـة)، بل نقصد مشروعًا يخـوض في تجربة الوحـدة. يُـرَتّـب هـذا الغيابُ نتيجةً منطقـيّـة وواقعيّـة في آن: الكلامُ على مشروعٍ وحدويّ عـربيّ، في مثل هذه الحـال، كـلامٌ على سبيل المجاز لا على وجْـه الواقع. ولئلاّ يظـلّ خطابًا طوبـويًّـا يدور في نطاق الينـبغـيّـات، بات لا مهْـرب للمؤمنين بالوحدة من الشّروع في بناء ثـقافتها، ولْيَستـفـد في ذلك المتأخِّـرُ منَ المتـقـدِّم، على قول أبـي الوليد بن رشد، من غيرِ تقليـدٍ واجترار... وتناسُبًا مع الحاجات الموضوعيّـة.
(خاص "عروبة 22")