تقدير موقف

أميركا وإيران... من عملية "أجاكس" إلى حرب "الأسد الصاعد"الاستتباع والاستئثار

المصالح ولا شيء غير المصالح؛ عبارةٌ كتبها قبل سنوات المفكّر الراحل محمد عابد الجابري، وصف حقيقةَ الصراع التاريخي بين الغرب الأطلسي ومنطقتنا، كما كشف كلّ محاولات التغطية على المصالح بالدّين أو الثقافة من جهة، كذلك التعمية على ما يقوم به الغرب من عملياتٍ "قذرة" - نستعيد ما ردّده المستشار الألماني الحالي مُؤخّرًا بأنّ إسرائيل تقوم بالنيابة عنّا بالعمل القذر - من أجل الحفاظ على مصالحه في المنطقة، والتي يُمكن إيجازها في أمرَيْن هما: الاستتباع والاستئثار. استتباع دولها ومجتمعاتها من جانبٍ، والاستئثار بمقدّراتها من جانبٍ آخر.

أميركا وإيران... من عملية

ما الحرب بين أميركا وإسرائيل وبين إيران، إلّا مشهد مُكرّر من تلك العلاقة "الاستتباعية ــ الاستئثارية" التي دأب الغرب عليها منذ حروب الفرنجة وحتى الموجة الاستعمارية الحديثة التي أعادت تقسيم وتقاسم المنطقة: نفوذًا وثروةً؛ مع "سايكس - بيكو" البريطانية - الفرنسية، مطلع القرن العشرين، عندما أدركت الإدارات الاستعمارية البريطانية والفرنسية كيف أنّ المنطقة حول الخليج العربي، وفي العراق وإيران تمتلك ثروةً فائقةً من النفط.

حرب "الأسد الصاعد" حلقة في سلسلة ممتدّة للتعاطي مع أي دولة من دول الإقليم تُحاول أن تُعيق الاستئثار - الاستتباع

ومع تسلّم الولايات المتحدة الأميركية قيادة العالم بعد الحرب العالمية الثانية بدلًا من القوى الاستعمارية التاريخية الآفلة، تبيّن أن واقع الثروة "الطاقوية" يفوق التقديرات الأوليّة التي قدرتها القوّتان الاستعماريّتان التاريخيّتان، إذ أكدت التنقيبات الجيولوجية الميدانية على أنّ إقليم الشرق الأوسط يمتلك أكثر من 65% من احتياطي النفط في العالم، وما يزيد على نصف الاحتياطي العالمي من الغاز الطبيعي. ومن ثم أصبح همّها الاستراتيجي هو كيفية تأبيد الهيمنة على المنطقة، واستدامة الاستئثار والاستتباع.

منذ ذلك الوقت، عملت الولايات المتحدة الأميركية، ورأس حربتها الإسرائيلي في المنطقة، على ضمان ما يلي:

أوّلًا: ضخّ التدفّقات "الطاقوية" إلى ما لا نهاية.

ثانيًا: بقاء بلدان المنطقة كأسواق لتصريف منتجاتها.

ثالثًا: السيطرة على المواقع الاستراتيجيّة من مطلّاتٍ بحريةٍ وممرّاتٍ حيوية.

رابعًا: احتواء القوى الكبرى الأخرى كروسيا.

خامسًا: اللّجم الفوري لأي صعود راديكالي مقاوم قومي أو ديني.

سادسًا: حماية الكيان الإسرائيلي؛ الاحتلالي الاستيطاني الإبادي التطهيري، الذي لا سقف لتوسّعه، ليكون الثكنة والمختبر الحربي الذي يملك جديد العلم والتكنولوجيا والسلاح، بما يبقيه في مقدّمة القوى الإقليمية.

في هذا السّياق، تأتي حرب "الأسد الصاعد" الإسرائيلية ضد إيران، والتي انخرطت فيها الولايات المتحدة الأميركية بالكامل، بعيدًا عن القراءة الدينية الحصريّة التي يحاول نفرٌ غير قليلٍ أن يصبغها على طبيعة الصّراع الراهن، ومن ثم تحويل النظر عن المصالح الحقيقية والتغطية عليها. إنّها حلقةٌ في سلسلةٍ ممتدّةٍ للتعاطي مع أي دولة من دول الإقليم - بغضّ النظر عن أي اعتبارات - تُحاول أن تُعيق - بدرجةٍ أو بأخرى - العملية التاريخية لاستدامة الاستئثار - الاستتباع.

خططت المخابرات الأميركية المركزية انقلابًا على محمد مصدق لإعادة إيران إلى الحظيرة الأميركية

تشير القراءة التاريخية إلى أنّ الولايات المتحدة الأميركية قد حرصت في الفترة ما بين الحربَيْن العالميتَيْن على أن تُولي عنايةً خاصةً بإيران لسببَيْن: الأوّل، لأنّها تقع في موقعٍ جيوسياسي استراتيجي بين الخليج والاتحاد السوفياتي. والثاني، لأنّها تطلّ على آسيا. لذا لعب الأميركيون دورًا أساسيًا إبّان الحرب العالمية الثانية لإبقاء إيران في معسكر الحلفاء بكلّ السبل على الرَّغم من أنّ الشاه كان مُعجبًا بهتلر. وفي هذا المقام، أنفقت الولايات المتحدة الأميركية الكثير في إيران للشاه شخصيًا من جهةٍ، وللتخديم الحربي لدعم بريطانيا والسوفيات من جهةٍ أخرى. وبانتهاء الحرب وانتصار الحلفاء، كانت الأوضاع الاقتصادية والسياسية في إيران سيّئة، ومن ثمّ بدأت موجةٌ من الإضرابات بخاصة في قطاع النّفط بداية من سنة 1945 بسبب الامتيازات الاحتكارية التي تحصل عليها الشركة الأنغلو ــ أميركية وعدم استفادة الإيرانيين من ثرواتهم الوطنية.

وفي مارس/آذار من سنة 1951، قام رئيس وزراء إيران الدكتور محمد مصدق (1882 ــ 1967) بتأميم صناعة النفط. ولم تنقضِ سنتان حتّى خططت المخابرات الأميركية المركزية انقلابًا على مصدق عُرف بعملية "مشروع أجاكس" سنة 1953، لإعادة إيران إلى الحظيرة الأميركية. وعليه، عاد الشاه إلى وضعيته الأولى مدينًا بعودته للولايات المتحدة الأميركية ومخابراتها وملتزمًا بثلاثة أهداف محدّدة في إطار دوره الإقليمي والدولي وذلك كما يلي: أوّلًا، حماية المصالح الغربية في المنطقة، والمصالح النفطية في منطقة الخليج بالذات. وثانيًا، مقاومة النفوذ السوفياتي ومنعه من التمدّد. وثالثًا، مقاومة الحركات الراديكالية بخاصة النّاصرية.

بقي الشاه من 1953 وحتّى مطلع 1979 حريصًا على أن يبقى في المعسكر الأميركي - الإسرائيلي مُنحازًا للمعسكر المناهض للحركات الراديكالية في المنطقة وكان حريصًا - ومن خلفه المعسكر الغربي الأطلسي - ألّا تتكرّر تجربة مصدق بأي حالٍ من الأحوال. وفي سبيل ذلك، أرسى، كما يقول أحد الباحثين، دعائم نظامٍ قمعيّ يستطيع أن يتصدّى لأي محاولة للخلاص. وعلى التوازي، تمّت إعادة تنظيم قطاع النفط لصالح مجموعةٍ من المحتكرين الغربيين على رأسهم الولايات المتحدة الأميركية. وقَبِلَ الشاه أن يكون "شرطيّ الخليج"، حسب تصوّر نيكسون. ومع أوّل محاولةٍ للتملّص من الهيمنة الأميركية قليلًا منتصف السبعينيّات 1973، واجه الشاه ونظامه موقفًا أميركيًا صارمًا.

رجال الدين في إيران كان لهم دومًا القدرة على حشد المواطنين

لم تكن الثورة، كما يقول فريد هوليداي، في كتابه: إيران: الديكتاتورية والتنمية - الطبعة الإنكليزية الثانيّة، "ثورةً اشتراكيةً قطعًا، أو اجتماعية، لأنّها لا تعكس ذلك ولم يُواكبْها أي تحوّلات راديكالية في مِلكية وسائل الإنتاج...". وإنْ كان الجديد الذي حملته هو أنّها أتاحت مساحةً أكبر لحضور البورجوازية الصغيرة التجارية بالأساس. لذا هي أقرب لأن تكون ثورةً سياسيةً دُفعت قسرًا بفعل التعبئة الجماهيرية التي اشتركت فيها قطاعات عريضة من المواطنين للتخلّص من السلطة السياسية القائمة. إلّا أنّ رجال الدين قطفوا ثمار الثورة لاعتباراتٍ كثيرة.

ويُشير التاريخ إلى أنّ رجال الدين في إيران كان لهم دومًا القدرة على حشد المواطنين منذ الحركة الدستورية التي عرفتها إيران في عام 1906. صحيحٌ كان لإضرابات العمّال في المصانع وحقول النّفط الأثر في تفجير الوضع، إلا أنّ البورجوازية الصغيرة المدينيّة التجاريّة (طبقة البازار) التي كانت القاعدة الاجتماعية للمؤسّسة الدينية قادت البلاد بدايةً من الربع الثاني من سنة 1979، ما مثّل زخمًا راديكاليًا - دينيًا بغضّ النظر عن رأينا فيه - بديلًا من الزخم الراديكالي القومي في المنطقة من ناحية، وموقعًا مناهضًا للمصالح الأميركية الأطلسية، ومنافسًا إقليميًا وازنًا لإسرائيل معطّلًا تكريسها قوةً إقليميةً وحيدةً "Lonely Regional Power"؛ وحائلًا لمخطّطات نتنياهو التي أوردها مبكرًا في كتابه "مكان بين الأمم" لتغيير خريطة الشرق الأوسط من ناحية ثانية.

فماذا ستسفر عنه هذه المواجهة التي لم تنتهِ فصولها بعد؟.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن