دعا الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الإسرائيليين، موالين ومعارضين، إلى استصدار قرار من الكنيست (البرلمان) يقضي بمنع المحاكمة عن بنيامين نتنياهو "تقديراً لدوره العظيم في الهجوم على إيران"، إلاّ أن صديقه رئيس حكومة "إسرائيل" يبدو غير مكترثٍ بهذا الاقتراح الملغوم، لماذا؟ لأن ترامب يريد ثمناً لهذا التكريم: تخلّي نتنياهو عن السلطة في إطار اتفاقٍ بين شتى الأحزاب الإسرائيلية محوره تأليف حكومةٍ ائتلافية جديدة ترضى بحلّ الدولتين، أي قيام دولة فلسطينية إلى جانب دولة "إسرائيل".
ترامب كان ورث عن إدارة سلفه جو بايدن مخططاً يرمي إلى تفكيك محور المقاومة الذي كان أطرافه يحيطون بالكيان الصهيوني: حزب الله في لبنان من الشمال، نظام بشار الأسد في سوريا، وكذلك "الحشد الشعبي" في العراق من الشرق، و"أنصار الله" في اليمن من الجنوب الشرقي، على أن يحلّ محله تحالف دول وقوى سنّية عربية وإسلامية لمواجهة إيران الشيعية، التي كانت الحليف المساند الأكبر لأطراف محور المقاومة.
بدأ تسلسل الأحداث أواخرَ سنة 2024 بنحو ثلاثة اسابيع قبل أن يتسلّم ترامب رسمياً صلاحياته الرئاسية في 20 كانون الثاني/يناير 2025، مع انهيار نظام الأسد الذي فُكَّت بسقوطه أولى حلقات محور المقاومة، فتوسعت "إسرائيل" جرّاء ذلك في جنوب سوريا، بحيث باتت تسيطر على نحو خُمس مساحتها الإجمالية. عملاً بالاتفاق بين نتنياهو وترامب، شنّت "إسرائيل" هجوماً صاعقاً على إيران فجرَ يوم الجمعة في 13 حزيران/يونيو2025، أدى إلى اغتيال كبار قادة الجيش الإيراني والحرس الثوري وقيادة العمليات وجهاز الاستخبارات، بالإضافة إليهم تسعة من كبار العلماء النوويين، أعقبته سلسلة غارات على مواقع استراتيجية في مختلف مناطق البلاد.
في أقل من 16 ساعة استوعبت إيران الهجمة الإسرائيلية الصاعقة وباشرت هجوماً شاملاً بموجات متعاقبة من الصواريخ الباليستية فرط الصوتية والمتدرجة في معايير مداها وقوة تدميرها، ما ألحق بكيان الاحتلال تدميراً وأضراراً هائلة غير مسبوقة قدّرت بعشرات مليارات الدولارات. إزاء هذه الأضرار الهائلة اللاحقة بالكيان الصهيوني، نفّذ ترامب "حصته" في الاتفاق الضمني مع نتنياهو بتوجيه ضربةٍ جوية قوية لثلاثة مواقع إيرانية تحتوي بنى نووية تحتية لتخصيب اليورانيوم هي فوردو ونطنز وأصفهان. نتائج الضربة الأمريكية ما زالت موضع جدل ومنازعة. ففي حين قال ترامب ووزيرا دفاعه وخارجيته ورئيس هيئة الأركان المشتركة، إن المواقع الثلاثة المستهدَفَة "أبيدت" وأنه ما عاد في وسع إيران تخصيب اليورانيوم، أكّدت طهران أنها قامت بنقل كميات اليورانيوم المخصّب إلى مكان آمن قبل يومين من الهجمة الأمريكية، وأنها نفّذت وعدها ووعيدها بالردّ على ايّ معتدٍ بقصف قاعدة العديد الأمريكية في دولة قطر الصديقة.
أثار عدم ردّ الولايات المتحدة على ضرب قاعدتها في قطر، تقوّلات وإشاعات وتسريبات متعددة حول وجود تفاهم ضمني بين واشنطن وطهران بشأن كيفية قصف البنى التحتية النووية الإيرانية، وضرب قاعدة العديد الأمريكية، وعدم ردّ أمريكا على إيران، وما إلى ذلك من سيناريوهات لحفظ ماء الوجه، إلاّ أنها كلها بقيت من دون أدلة حاسمة، باستثناء أمرين فقط اكتسبا قدْراً من الصدقية: الأول، مجموعة من الصور والأفلام والتعليقات مصدرها مواطنون ورعايا أجانب مقيمون في "إسرائيل" كشفت ضخامة وهول الأضرار اللاحقة بمختلف مدن الكيان ومرافقه العامة. الثاني، صور ومشاهد مروّعة مصدرها أقمار الصين الاصطناعية.
كلُّ ما تقدم بيانه مهم، لكن الأهم والأخطر بالنسبة للبنان واللبنانيين هو ما أقدمت عليه "إسرائيل" في الأيام الثلاثة الماضية، إذ لم تكتفِ بما احتلته من تلال كاشفة في جنوب لبنان بعد سريان الاتفاق القاضي بوقف الأعمال العدائية في منطقة جنوب نهر الليطاني بغية تنفيذ القرار الدولي 1701، بل ثابرت أيضاً على منع سكان القرى الحدودية من إعادة ترميم منازلهم المهدّمة أو العودة إليها، ثم قامت بقصف مدينة النبطية والمرتفعات الكائنة شمال نهر الليطاني، بدعوى انها تحتوي مواقع يقوم حزب الله بإعادة إعدادها وتجهيزها.
بات واضحاً أن "إسرائيل" أخذت على عاتقها "مهمة" تجريد "حزب الله" من سلاحه بدعوى أن الحكومة اللبنانية لا تريد إنجاز ذلك، مع العلم أن لبنان أعلن وأكّد بلسان رئيس الجمهورية العماد جوزف عون، ورئيس الحكومة نواف سلام بأنه ماضٍ في حصر السلاح بيد الدولة وحدها، وأن ذلك سيجري تدريجياً في ضوء ظروف البلاد وحاجاتها ومختلف التحديات التي تواجهها. لماذا يتمادى نتنياهو في ممارسة اعتداءاته على لبنان؟
إنه يفعل ذلك لثلاثة دوافع: الأول، متابعة دوره وفق المخطط الرامي إلى بناء تحالف دول وقوى سنيّة عربية وإسلامية لمواجهة إيران، والقضاء على حزب الله وحلفائه في جميع مناطق لبنان. الثاني، الحؤول دون معاودة محاكمته بالتهم الموجهة إليه متذرعاً بأن "إسرائيل" في حالة حربٍ مستمرة في قطاع غزة، كما في لبنان ما يستوجب عدم عرقلة عمله كرئيس للحكومة. الثالث، العمل على إعادة تأجيج المواجهة مع إيران بقصد إحباط ايّ محاولة، حتى لو كان وراءها الرئيس الأمريكي، لاعتماد حلّ الدولتين، أيّ إقامة دولة فلسطينية إلى جانب "إسرائيل".
هكذا يجد لبنان واللبنانيون أنفسهم أمام خيارين كِلاهما مرّ: التطبيع مع "إسرائيل" أو الرضوخ لاحتلالها التوسعي، في حين أنهم لا يريدون سحب سلاح حزب الله بالقوة. حتى لو أرادوا، فإن الجيش اللبناني لا يمتلك القدرات اللازمة للقيام بهذه المهمة البغيضة. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن لبنان، دولةً وشعباً، يرفض تطبيع علاقاته مع كيان العدو، وإذا افترضنا أن حكومة نواف سلام، أو غيرها ارتأت الموافقة على التطبيع، فإن ذلك سيؤدي إلى اندلاع حرب أهلية، الأمر الذي ترفضه غالبية اللبنانيين الساحقة.
ما العمل؟ أعود إلى طرح اقتراحي القديم ـ الجديد بعقد مؤتمر وطني عام يشارك فيه رؤساء الجمهورية ومجلس النواب ومجلس الوزراء، بالإضافة إلى قادة الأحزاب والقوى الوطنية النهضوية بقصد أن يعلن الجميع بالإجماع إلى العالم أجمع، رفض لبنان القاطع لضغوط العدو وحلفائه، الرامية إلى فرض إرادات وسياسات ومعاهدات واتفاقات ملغومة منافية لسيادته ووحدته الوطنية، ومصالحه العليا وعروبة الهوية والانتماء التي يكرّسها دستور البلاد.
في حال أحجم الرؤساء الثلاثة عن المشاركة في التحرك الشعبي العام، فإن على القوى الوطنية النهضوية المبادرة بلا إبطاء إلى عقد المؤتمر الوطني العام المطلوب، لاتخاذ التوصيات والقرارات الوطنية والسياسية والاقتصادية اللازمة، والارتفاع تالياً بالبلاد من حضيض دولة ثقافة الفساد وممارسته، وسلطة المجموعات الأوليغارشية المتوارَثة، وعصابات المنحرفين ومحترفي النزاعات الطائفية، وشركاء العدو الظاهرين والمستترين، إلى رفعة التعاهد الوطني على بناء الدولة المدنية القائمة على أسس حكم القانون والديمقراطية والعدالة وكرامة الإنسان والتنمية والإبداع الحضاري.
(القدس العربي)